تطرق المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه «الصهيونية والحضارة الغربية الحديثة» إلى علاقة اليهودية بالمنفعة، وتوظيفها في الحضارة الغربية الحديثة، وأسس ذلك للنظر إلى الدولة اليهودية بالمعنى السياسي، ككيان وظيفي يخدم هدفين متداخلين؛ الأول هو التماهي مع الظاهرة الاستعمارية منذ نشأتها واتساع الاكتشافات الجغرافية في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (عام 1492)، وجاء ظهور العالم الجديد مدخلا لولادة كيانات ودول استيطانية؛ جلبت أفواجا بشرية من المستعمرات الأفريقية؛ روجت لتجارة العبيد المطلوبين للسخرة واستصلاح الأراضي وتعمير المساحات الشاسعة. واعتمد المستوطن الأبيض تعاليم وآيات التوراة والتلمود؛ كمحركات عقائدية تُسَوِّغ وتبرر وتشرعن اغتصاب ممتلكات أهل البلاد الأصليين واستيطان قراهم ومخيماتهم، وشاعت على ألسنة المستوطنين القادمين من العالم القديم، وخاصة من أوروبا.
واستقرت هذه القناعات محركة للأيديولوجية الصهيونية وروافدها في الفكر المسيحي الغربي (الأبيض)، وجسدها عمليا الكيان الصهيوني الأصغر في فلسطين، وكان قد سبقه الكيان الصهيوني الأكبر في الولايات المتحدة، وأضحى الصراع على مياه المنطقة الواقعة بين الفرات إلى النيل أحد أهم دوائر النشاط في نطاق المجال الحيوي للمشروع الصهيوني في نقلته الجديدة؛ وكانت فكرته الأولى قد تبلورت في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وحملها نابليون بونابرت إلى مصر والشام؛ وسعى لإقامة الوطن القومي المطلوب، واتجه في تنفيذ خطته نحو وضع يده على فلسطين؛ كنقطة ارتكاز وموقع انطلاق في اتجاه التأسيس والتوسع، ونجح البريطانيون فيما فشل فيه الفرنسيون في تلك المهمة، وقطعوا فيها شوطا طويلا.
كانت وظيفة الدولة الأمريكية إحياء الفكرة الصهيونية، والانطلاق بها في مجال حيوي جديد أكبر؛ لم تكن أرضا خالية من البشر، أو لا يسكنها أحد، ونُفِّذت فيهم الإبادة الوحشية الممنهجة، والتطهير العرقي المنظم، والتهجير القسري المستمر؛ وانتشرت بينهم الأمراض الخبيثة والأوبئة، فخلت الأرض للمستوطنين البيض، وواكب الازدهار الأمريكي استئصال واجتثاث كل ما له بأصحاب البلاد الأصليين والتخلص منهم!!
وهذه نفس الفترة التي طُرِد فيها العرب والمسلمون واليهود من الأندلس وشبه جزيرة أيبيريا (أسبانيا والبرتغال). وجاء الوقت الراهن فاستدار رعاة ذلك المخطط الدامي. وولوا وجوههم شطر «القارة العربية»، وقد استسلمت الغالبية العظمى من حكوماتها وأغنيائها لمخطط الصهينة، ومُنِحوا رخصا للإبادة المجانية، بطرق شيطانية برع فيها العنصريون والمتطرفون والقتلة، وهذا جعل من اليهودية السياسية؛ مرادفا دقيقا للصهيونية؛ بجرائمها ووحشيتها، ومزجها بين سرقة موارد المياه ومطلب الأمن؛ أمن المستوطنين، وما سيطرة الدولة الصهيونية على هضبة الجولان السورية إلا لوجود منابع نهر الأردن بها.
وغير ذلك، حجج واهية مع تطور صناعة السلاح، وما أدى إليه الانتصار العسكري للجيوش العربية على الجيش الصهيوني عام 1973 وإسقاط نظرية الأمن الصهيونية، وفقدان السيطرة على جنوب لبنان بعد 20 عاما من احتلاله، وما زالت تطمع في العودة إليه بسبب مياه نهر الليطاني، الداخل ضمن دوائر المشروع الصهيوني منذ بداية التفكير فيه، وما كان عمل تل أبيب الدؤوب لتقوية علاقاتها بأنقرة وأديس أبابا، إلا من أجل الموارد المائية للعراق ومصر وسوريا، وهكذا تتأكد العلاقة التي تربط موارد مياه المشرق العربي، ومياه النيل.
يعكس التحالف الصهيوني الإثيوبي في مدخل البحر الأحمر، وفي منابع النيل؛ يعكس حالة متناقضة؛ بتأثير الأوضاع الاقتصادية المنهارة، ومن هزيمة الجيش الإثيوبي في إقليم التيغراي وفي أريتريا
وتم نقض اتفاقيات ومعاهدات خاصة بتنظيم مياه النيل، وأصبح عدد منها محل نظر، خاصة تلك التي أُبرِمت مع سلطات الاستعمار قبل الاستقلال، ومن بينها اتفاقية أنكلو ـ إثيوبية (1902م)، وتم تعيين حدود إثيوبيا مع السودان بموجبها، وتعهدت فيها أديس أبابا بألا تقيم ولا تسمح بإقامة أية منشأة على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو السوباط، يكون من شأنها وقف تدفق المياه إلى نهر النيل إلا بالاتفاق مع حكومتي بريطانيا والسودان، وتأكيد مبدأ عدم عرقلة الأنهار التي تنبع من إثيوبيا وأريتريا في معاهدة عام 1906م الثلاثية بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.
واتفاقية عام 1929م بين مصر والسودان، صاغتها لجنة ثلاثية دولية من ممثلي بريطانيا وأمريكا والهند، عقب خلاف مصري سوداني حول حصة كل منهما من المياه، ثم استقرت الدولتان علي اتفاقية عام 1959م المبرمة بمناسبة البدء في بناء السد العالي ورتبت حقوق الدولتين المائية فيها، وحسب ما جاء في دراسة عن قضايا المياه في الصراع العربي/ (الإسرائيلي)؛ الصادرة عن المركز الديمقراطي العربي للباحث حسين خلف موسى، جاء فيها؛ قدمت الحكومة الأثيوبية مذكرة عام 1957م إلى مصر والسودان، تشير إلى حق إثيوبيا في مياه النيل النابعة من أراضيها، ونقضت فيها اتفاق عام 1902م، وتمسكت بمبدأ ممارسة السيادة علي منابع النيل الأزرق وعطبرة. وتزامن رفض الحكومة الإثيوبية للاتفاقية مع الإعلان عن نتائج دراسة لتنمية الأراضي الزراعية الإثيوبية، واقترحت ردا على مشروع السد العالي، إقامة 36 سدا وخزانا، ولم تر هذه المشاريع النور، وظلت موجبات النزاع قائمة كلما توترت العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا.
وينتظر المتربصون وهم كثر الرؤية الصهيونية الجديدة للتسوية، وقيامها على ما يُسمَّى التكامل الإقليمي؛ يربط دول المنطقة بصيغة أشبه بالسوق المشتركة؛ في مجال الزراعة، وتصدير تقنية الري لمصر، واستخدام نظام فعال للمياه بهدف دعم التنمية الزراعية المصرية، وهذه رؤية مطابقة للرؤية الأمريكية، وتربط بين إعادة توزيع المياه ومسار التسوية السياسية، وبذلك تم إدخال قضية المياه (الفنية) في صلب تسوية (سياسية)؛ ترتب عليها صياغة نظام إقليمي جديد يوظف الموارد المائية في رفع وتيرة تطبيع علاقات تل أبيب بالقاهرة.
وكانت الدولة الصهيونية قد استغلت التقارب مع إثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلاسلاسي؛ من أجل تهديد مصر في حقل المياه، حيث 85 في المئة من احتياجات مصر المائية تنبع من إثيوبيا، وبلغت حصة مصر من مياه النيل 55.5 مليار متر مكعب، وبلغ العجز المائي 14.5 مليار متر مكعب، أما السودان فحصته 18.5 مليار متر مكعب، ويستهدف زيادة الرقعة الزراعية من 4.5 مليون فدان إلى 9 ملايين فدان، وهذا يحتاج إلى 14.8 مليار متر مكعب، وبذلك يكون العجز المائي عند مصر والسودان 38 مليار متر مكعب، وهذه كمية ممكنة التدبير بعد تنفيذ مشروعات أعالي النيل، وتتولاها مصر والسودان معا، ومتوقفة حاليا.
أما السادات الذي اقترح بعد زيارته للقدس المحتلة، وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد؛ اقترح سحب حصة من مياه النيل، وحفر «ترعة السلام» من تحت قناة السويس؛ تصل لسيناء ومنها إلى النقب (1979م)، ووجد اقتراحه معارضة داخلية وعربية وأفريقية شديدة منعت التنفيذ، هذا بجانب اقتراح قدمه مشارك في «ندوة التعاون الاقتصادي لدول الشرق الأوسط» في لوزان السويسرية عام 1989م، وهو الرئيس الأسبق لجامعة تل أبيب؛ حاييم بن شاهار؛ تقدم باقتراح أن تقوم حكومة مصر بالتنازل لحكومة تل أبيب عن نسبة 1 في المئة من مياه نهر النيل؛ عبر الأنابيب؛ تستخدمها في مشاريع التنمية الزراعية.
ومع ذلك، يعكس التحالف الصهيوني الإثيوبي في مدخل البحر الأحمر، وفي منابع النيل؛ يعكس حالة متناقضة؛ بتأثير الأوضاع الاقتصادية المنهارة، ومن هزيمة الجيش الإثيوبي في إقليم التيغراي وفي أريتريا، والوقوع تحت ضغط الحاجة لأسلحة وخبراء وعسكريين صهاينة لمواجهة الهزيمة، وتستمر في ابتزاز مصر، وإعاقة أي دور قد تؤديه للقضية الفلسطينية وتطوراتها، أو لجمع العرب في مواجهة التوسع الصهيوني غير المسبوق، وهو شيء تعجز الرئاسة المصرية الحالية عن القيام به، فهي عاجزة وفي حاجة لمعجزة تخلصها من هذا العجز الذي تعيشه!
(القدس العربي اللندنية)