الاحتجاجات الشعبية وحدود قدرة ترامب على العبث بالقيم الأميركية


تم النشر 11 يونيه 2020


عدد المشاهدات: 1049

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

تشهد الولايات المتحدة الأميركية احتجاجاتٍ واسعة على خلفية مقتل مواطن أميركي من أصل أفريقي، هو جورج فلويد، على يد شرطي أبيض ظل جاثمًا بركبته على رقبة فلويد ما يقرب من تسع دقائق في مدينة منيابوليس في ولاية مينيسوتا. وفاقم الوضع استغلال الرئيس دونالد ترامب القضية لحسابات انتخابية، تروم إظهاره زعيمًا قويًا "يمثل النظام والقانون"، بدل محاولة احتوائها والوعد بمعالجة التمييز العنصري المتجذّر في الولايات المتحدة، ولا سيما في صفوف الشرطة. وجاءت هذه الأزمة في وقتٍ ترزح فيه البلاد تحت وطأة جائحة فيروس كورونا، وما ترتب عليها من تراجع الاقتصاد، وتفشّي البطالة؛ ما أدى إلى اتساع نطاق الاحتجاجات التي تجاوزت الانتماءات العرقية والسياسية، وتحولت إلى ما يشبه التعبير العام عن حالة احتقان وغضب، قبل خمسة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
لماذا الغضب؟
مع أن قسوة الشرطة في التعامل مع الأميركيين من أصول أفريقية وتمييز النظام القضائي ضدهم ليس بالأمر الجديد، فإن شخصية ترامب، ومجاهرته بـ "القومية البيضاء"، وخطابه المعمّق للانقسامات السياسية والعرقية، منذ انتخابه، زادت الوضع سوءًا. وبعد توليه الرئاسة، لم يتردّد في إبداء" تفهّمه" حركات العنصريين البيض والنازيين الجدد، كما فعل خلال مظاهراتهم العنيفة في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا صيف 2017. وكثيرًا ما عبّر  
مجاهرة ترامب بـ"القومية البيضاء"، وخطابه المعمّق للانقسامات السياسية والعرقية، منذ انتخابه، زاد الوضع سوءًا
ترامب عن تأييده العنف الذي تستخدمه الشرطة ضد المواطنين، وشجع عليه. ففي آب/ أغسطس 2017، أصدر أمرًا تنفيذيًا ألغى فيه قرارًا لسلفه، باراك أوباما، يمنع وزارة الدفاع الأميركية من تزويد إدارات الشرطة المدنية بمعدّات وأسلحة عسكرية. وبحسب قرار ترامب، أصبح في مقدور الشرطة الحصول على تلك المعدّات والأسلحة، إما مجانًا أو عبر منح حكومية؛ وهو ما عزّز عسكرة الأجهزة الشرطية والميل إلى العنف فيها.
جاءت الصور الحية التي وثقت طريقة مقتل فلويد في 25 أيار/ مايو 2020، في وقتٍ دفع فيه الأميركيون من أصل أفريقي أكبر الأثمان بسبب تفشّي فيروس كورونا، على المستويين، الاقتصادي والصحي. ويشير تقرير البطالة الأميركي، لشهر أيار/ مايو 2020، إلى أن معدل البطالة يبلغ على المستوى الوطني 13.3%، في حين يصل بين الأميركيين الأفارقة إلى 16.8%، وقد تبين لاحقًا أن النسب أعلى من ذلك بكثير، على المستوى الوطني وبين السود. كما بينت دراساتٌ علمية أن نسبة الوفيات بين الأميركيين السود بسبب فيروس كورونا أعلى بثلاث مرات منها بين نظرائهم من البيض. وتدلّ هذه المعطيات على مدى التهميش والتمييز المؤسسي الذي يتعرّض له الأميركيون الأفارقة الذين يصل عددهم إلى 40 مليونًا (13% من السكان). إضافة إلى ذلك، يعاني الأميركيون الأفارقة من معدّلات متدنيةٍ في التعليم وفي الأجور مقارنةً بالبيض، كما أن توزيع الثروة مختلٌّ بين الأسر البيضاء والسوداء بأكثر من عشر مرات لصالح الأولى. وتصل نسبة السود في السجون الأميركية إلى ثلث العدد الكلي للسجناء. وإمكانية تعرّض الرجال السود للقتل على أيدي عناصر الشرطة الأميركية أعلى مقارنةً بالرجال البيض. ووجدت دراسة مسحية، عام 2019، أنه من كل خمسة رجال سود أوقفتهم الشرطة تبين أن ثلاثةً منهم أوقفوا ظلمًا، أي بلا مبرّر مقنع. كما يقول حوالى ثمانية من كل عشرة سود، ممن لديهم درجة من درجات التعليم الجامعي، إنهم تعرضوا للتمييز بسبب انتمائهم العرقي.
اضطراب مقاربة الإدارة وخلافاتها
كما هو الحال دائمًا، اتسم تعامل ترامب مع أزمة الاحتجاجات على مقتل فلويد بفوضى ردود  
"يتعرّض الأميركيون الأفارقة الذين يصل عددهم إلى 40 مليونًا للتهميش والتمييز المؤسسي"
الفعل، وغياب الانسجام بين أركان إدارته، فمع انتشار فيديو الجريمة، وصف ترامب المشهد بـ "الصادم"، وقال البيت الأبيض إن الرئيس يأخذ الأمر بـ "جدّية" وأنه "منزعج" للغاية منه. ثمَّ عاد ترامب، مع تزايد الاستياء الشعبي، وأعلن أن ما جرى "مأساة خطيرة ... ما كان ينبغي أن تحدث"، وبأنها أصابت الأميركيين "بالرعب والغضب والحزن". إلا أن الرئيس، وعلى عكس أسلافه في مثل هذه الحوادث، لم يوجه خطابًا يهدئ به الخواطر، ويتعهد فيه بإجراء إصلاحات لتجسير الهوة العرقية في الولايات المتحدة. وساهم الفراغ القيادي في البيت الأبيض في تصاعد حدّة الاحتجاجات الشعبية، رافق بعضها أعمال شغبٍ ونهبٍ للممتلكات. فبدأ ترامب بتبنّي خطاب أكثر حدّة وتحديًا؛ إذ أعلن أن الاحتجاجات "لا علاقة لها بالعدالة أو السلام"، مختزلًا إياها بأفعال "مشاغبين، ولصوص، وفوضويين" يسيئون لذكرى فلويد بتحريضٍ من جماعات يساريةٍ متطرّفة. ولم يتردّد ترامب في إعلان تأييده "رجال الشرطة"، فضلًا عن تهديد المتظاهرين خارج البيت الأبيض بـ "الكلاب الشرسة" و"الأسلحة المشؤومة" إن حاولوا "اختراق السياج" الأمني، وهو ما زاد من الاحتقان.
وفي الأول من حزيران/ يونيو 2020، أجرى ترامب اتصالًا مع حكام الولايات، مطالبًا إياهم بـ "السيطرة" على المتظاهرين و"استعادة الشوارع"، أو أنه سيُصدر أوامر بنشر الجيش النظامي، بموجب "قانون التمرد" لعام 1807، في المدن التي وصفها وزير الدفاع، مارك إسبر، بـ "ساحة معركة". كما أعلم ترامب حكام الولايات بأن رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، سيكون مسؤولًا عن التصدّي للاحتجاجات. وعلى الفور، قامت عناصر من جهاز الحماية الرئاسية، مدعومة بأجهزة أمن فيدرالية، وقوات من الحرس الوطني وطائرات مروحية تابعة له، حلقت على مستوى منخفض، بفضّ تظاهرةٍ سلميةٍ في ساحة لافييت أمام البيت الأبيض، استُخدم فيها الرصاص المطاطي، والقنابل الصوتية، ورذاذ الفلفل. واتضح فيما بعد أن ترامب أراد الوصول، بمعية وزيرَي العدل والدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة، وعدد آخر من المستشارين، إلى كنيسة القديس يوحنا المحاذية للبيت الأبيض، والتقاط صورةٍ أمامها حاملًا الإنجيل، رغبةً في إظهار الحزم والقوة. كان ظهور ترامب غير المعروف بتدينه حاملًا الكتاب المقدس محاولة مكشوفة تمامًا لمخاطبة مؤيديه من الكنائس الإنجيلية وكسب تعاطفهم في هذه الظروف.
رد فعل المؤسسة العسكرية
تسببت هذه التصرّفات بموجة انتقاداتٍ واسعة، بدأها أربعة رؤساء أميركيين سابقين: جيمي  
اتصل ترامب مع حكام الولايات، وطالبهم بـ"استعادة الشوارع"، أو أنه سيُصدر أوامر بنشر الجيش النظامي
كارتر، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما. كما تعرّض ترامب لانتقادات شديدة من القادة العسكريين السابقين، كوزير دفاعه السابق، جيمس ماتيس، والأدميرال مايك مولن، والجنرال مارتن ديمبسي، الرئيسين السابقين لهيئة الأركان المشتركة، وكبير موظفي البيت الأبيض الأسبق في إدارة ترامب، الجنرال جون كيلي، وذهب هؤلاء حد اعتبار أن نشر قوات الجيش في المدن قد يمثل خرقًا من جانب الجنود قسمهم الدستوري بحماية الأميركيين. تلا ذلك رسالة وقّعها 89 مسؤولًا سابقًا في وزارة الدفاع، بينهم أربعة وزراء دفاع سابقين، جمهوريين وديمقراطيين، إضافةً إلى عشرات المسؤولين والجنرالات الآخرين المتقاعدين، دانوا فيها تهديد ترامب باستخدام الجيش في التصدّي لمظاهرات شعبية، ومحاولاته تسييس المؤسسة العسكرية، وزجّها في معارك داخلية. كما دانت الرسالة كلًا من وزير الدفاع، إسبر، والجنرال ميلي، لتجاوبهما مع ترامب. وهذه ليست المرّة الأولى التي تنم فيها تصرفات ترامب عن عدم إدراك مقومات النظام الديمقراطي وخطوطه الحمراء حتى بالنسبة إلى قوى محسوبة على المحافظين في الولايات المتحدة.
وأمام هذه الضغوط، ومع استقالة أحد كبار مسؤولي وزارة الدفاع احتجاجًا على حنث إسبر "يمين الدفاع عن الدستور"، وتنامي الاستياء العلني لدى جنرالات حاليين في الجيش، بدأ إسبر يبتعد عن موقف ترامب، زاعمًا أنه لم يكن يعلم بتفريق المتظاهرين بالقوة خارج البيت الأبيض، وبأنه لم يكن على علم بنية ترامب ووجهته عندما رافقه إلى الكنيسة. كما اعتبر أن "الحرس الوطني هو الأشد ملاءمةً لتقديم الدعم للسلطات المدنية في هذه المواقف لتطبيق القانون المحلي"، وبأن "استخدام القوات النظامية لإنفاذ القانون هو ملاذ أخير فقط لأكثر الحالات إلحاحًا وخطورة". وأضاف: "نحن لسنا في واحد من تلك المواقف الآن. أنا لا أؤيد اللجوء إلى قانون التمرّد". وقد أثارت تصريحات إسبر تلك غضب البيت الأبيض. وتشير تقارير أخرى إلى أن ميلي يتبنى الموقف نفسه أيضًا، وبأنه عارض مع كل من إسبر ووزير العدل، وليام بار، طلبًا لترامب بنشر عشرة آلاف جندي نظامي في المدن الأميركية.
أثر الاحتجاجات في الانتخابات
مع أنه من المبكر قياس تأثير الاحتجاجات في الانتخابات التي تجري في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، إلا أن استطلاعات الرأي الحالية تشير إلى أنها ربما تؤدي إلى تراجع حظوظ ترامب في الفوز بفترة رئاسية ثانية وفق المزاج العام السائد اليوم. وبموجب استطلاع أجرته رويترز/ إيبسوس، فإن 55% من المشمولين فيه أعربوا عن رفضهم طريقة تعامل ترامب مع الاحتجاجات، في حين عبر 64% منهم عن تعاطفهم مع المتظاهرين؛ وهو ما 
"بموجب استطلاع لرويترز/ إيبسوس، 55% أعربوا عن رفضهم طريقة تعامل ترامب مع الاحتجاجات، و64% منهم عن تعاطفهم مع المتظاهرين"
 يعني أن محاولة ترامب تقديم نفسه في الانتخابات بوصفه مرشّح "القانون والنظام" لم تنجح، حتى الآن على الأقل. وتظهر سلسلة من استطلاعات الرأي أن فشل إدارة ترامب في التعامل مع جائحة كورونا، وما ترتب عليها من تداعياتٍ اقتصاديةٍ سلبيةٍ وارتفاع معدّلات البطالة ارتفاعًا كبيرًا، فضلًا عن اضطرابٍ تعاملها مع الاحتجاجات، كلها عوامل سوف تصعّب على ترامب الحصول على 270 مندوبًا في المجمع الانتخابي للفوز بفترة رئاسية ثانية.
ولا تقتصر مشكلات ترامب على المستوى الوطني، حيث يتقدّم المرشح الديمقراطي، جو بايدن، بمتوسط نقاط تبلغ 7.8%، بل تمتد لتشمل عددًا من الولايات الترجيحية التي ربحها ترامب عام 2016 حاسمًا المعركة الانتخابية لصالحه ضد هيلاري كلينتون، فضلًا عن منافسة بايدن له في ولاياتٍ محسوبةٍ تاريخيًا على الجمهوريين. فمثلًا، يشير أحد تلك الاستطلاعات إلى تقدّم بايدن على ترامب في ولاية ويسكونسن، والتي ربحها الأخير عام 2016، بنسبة 49% إلى 40%. في حين يفيد استطلاع آخر بأن بايدن يتقدم على ترامب في ولاية فلوريدا الترجيحية بنسبة 48% مقابل 45%. وفي ميشيغان، وهي ولاية أخرى ربحها ترامب من الديمقراطيين عام 2016، يتقدم بايدن بنسبة 48% مقابل 46%. أما المفاجأتان الكبيرتان، فتتمثلان بأن ترامب وبايدن شبه متساويين في ولايتين جمهوريتين، تكساس وأريزونا؛ إذ يتقدّم ترامب فيهما بنقطة واحدة فقط. كما تشير الاستطلاعات نفسها إلى أن الجمهوريين سيخسرون، على الأرجح، السيطرة على مجلس الشيوخ. مع ذلك يبقى مبكرًا جدًا الجزم بشأن نتائج الانتخابات الأميركية، خاصة في ضوء فشل استطلاعات الرأي في التنبؤ بفوز ترامب عام 2016.
خاتمة
أماط مقتل جورج فلويد اللثام عن أزمةٍ تعانيها الولايات المتحدة منذ قرون، فهي لم تنجح بعد في تجاوز التاريخ المرير للعبودية والتمييز العنصري في الممارسة العملية والثقافة السائدة في بعض مؤسسات تطبيق القانون، على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على شمول الأميركيين من أصل أفريقي في الديمقراطية الليبرالية في كل الولايات، وانتصار مبدأ المواطنة  
"قد تؤدّي الاحتجاجات القائمة إلى صعود حركة حقوق مدنية جديدة"
والحقوق المدنية. ولكن هذه الأزمة، وفي ظل الظروف والسياقات التي جاءت فيها، قد تؤدّي إلى صعود حركة حقوق مدنية جديدة، وخصوصًا مع انضمام عدد كبير من الأميركيين البيض، وغيرهم إليها، وفي ضوء إعلان بعض المدن والولايات الأميركية إطلاق إصلاحاتٍ واسعة تستهدف أجهزة الشرطة وتعاملها مع المدنيين. من جهة أخرى، على الرغم من أن الأزمة كشفت عن مدى ضعف الحزب الجمهوري أمام ترامب، والتواطؤ معه، وصمته عن عبثه ببعض القيم الأميركية، فإنها في المقابل أظهرت مقاومةً قوية لمحاولات التعدّي على حرية التعبير السلمي للمواطنين الأميركيين، ومحاولات تسييس المؤسسة العسكرية، من مسؤولين سابقين من الحزبين، وحتى من داخل المؤسسة العسكرية نفسها.



- انشر الخبر -