جيفارا الحسيني - عكا للشؤون الاسرائيلية
بقلم: سارة فوير وغاليا ليندنشتراوس - نظرة عليا
في الأسابيع الأخيرة، نجحت قوات من "حكومة الوفاق الوطني"، التي تتخذ من طرابلس مقراً لها وتحظى باعتراف دولي، من العودة -بمساعدة تركية- استعادة عدة مدن أساسية وقواعد عسكرية كانت تسيطر عليها سابقاً قوات الخصم برئاسة خليفة حفتر. وتشكل الانتصارات السريعة لقوات حكومة الوفاق الوطني التي أدت بحفتر أن يقترح وقفاً للنار واستئنافاً للمفاوضات، تحولاً في وجهة الحرب في الدولة التي بدأت الجولة الأخيرة فيها قبل أكثر من سنة بقليل، عندما فتح حفتر هجوماً هدفه احتلال العاصمة وتوسيع سيطرته إلى عموم الدولة. ورغم أن ما تبقى هو معرفة ما إذا كان هناك تغيير مؤقت أم يؤدي إلى تغيير طويل المدى في ميزان القوى، إلا أن التطورات الأخيرة في هذه الأثناء تدل على أن تركيا تصبح لاعباً مركزياً في النزاع الليبي، وفي نهاية المطاف كفيلة بأن تحقق نفوذاً إقليمياً آخر بفضل تدخلها في دولة بشمال إفريقيا. أما إذا كان التدخل التركي سيجر روسيا إلى تدخل أكبر في الساحة الليبية (مثلما يحتمل أن نرى في الاستخدام الذي تم لطائرات قتالية روسية لمساعدة قوات حفتر في الأيام الأخيرة)، فإن التطورات على الأرض كفيلة في نهاية المطاف أن تجتذب الأمريكيين أيضاً لتصعيد تدخلهم. حالياً على الأقل، نجحت تركيا في تغيير ميل الحرب في ليبيا، وستضرب آثار نجاحاتها الأخيرة موجات تتجاوز شواطئ طرابلس.
إن قدرة تركيا على حماية وجودها في ليبيا تدل على تفوقها في معركة القوى العظمى الخارجية، الساعية إلى التأثير على الدولة الغنية بالنفط، منذ الإطاحة بالحاكم الطاغية معمر القذافي في العام 2011 على خلفية الهزة الإقليمية. ما بدأ كانتقال واعد للحكم، تفكك تحت تحديات الخلافات القبلية، والجغرافية والأيديولوجية، والحرب التي نشبت في العام 2014. تحالف هزيل للميليشيات في غربي الدولة حظي بتأييد من قطر والسودان وتركيا، بينما جملة من الميليشيات من الجانب الشرقي بقيادة حفتر تلقت مساعدة من روسيا، ومصر، والسعودية، والإمارات. في العام 2015، قضى اتفاق بوساطة الأمم المتحدة رسمياً بـ "حكومة الوفاق الوطني" كالممثل الشرعي الوحيد للدولة، ولكنه ترك مسألة دور حفتر غير محلولة. في نهاية الأمر، تراجعت الحكومة في شرقي ليبيا المؤيدة لحفتر عن اعترافها بحكومة الوفاق الوطني.
في السنوات التالية لذلك، بينما واصلت الأمم المتحدة جولات من المفاوضات لم تسجل نجاحاً، فإن منظومة القوى الأصلية للاعبين الخارجيين الذين يضخون المال والسلاح للجماعات المتخاصمة داخل ليبيا (في ظل خرق حظر السلاح الذي قررته الأمم المتحدة) اجتازت تغييرات معينة. تراجع التدخل التركي والقطري قليلاً بعد 2015؛ أما فرنسا والأردن فمنحا تأييدهما لحفتر في الوقت الذي ساندت فيه إيطاليا حكومة الوفاق الوطني؛ بينما أدت التظاهرات الداخلية في السودان في 2019 إلى التراجع عن تأييدها وإلى أن يقاتل مأجورون سودانيون مؤخراً إلى جانب قوات حفتر.
أما الولايات المتحدة، من جهتها، فبقيت غائبة بقدر كبير عن الساحة الليبية منذ 2012، منذ قتل سفيرها. إن التدخل غير المنقطع للاعبين الخارجيين كان موضع اتهام بأنه يتسبب بتواصل النزاع في ليبيا. وبالضبط عندما بدا وكأن المحادثات برعاية الأمم المتحدة تقف أمام اختراق في بداية 2019، فتح حفتر هجوماً مفاجئاً لاحتلال العاصمة، وتثبيت سيطرته على كل الدولة.
كان يبدو أن حفتر يقف على مسار مؤكد، وإن كان بطيئاً، لتحقيق هذه الأهداف، بمساعدة نحو 800 حتى 1.000 مرتزق روسي من شركة فاغنر ومئات المسيرات وطائرات اتحاد الإمارات التي كانت تهاجم من الأراضي المصرية. غير أن تركيا وحكومة الوفاق الوطني وقعتا في تشرين الثاني 2019 على مذكرة تفاهم عسكرية. وبخلاف اللاعبين الخارجيين الآخرين العاملين بالخفاء في ليبيا، صوت البرلمان التركي علناً على تفويض بتقديم المساعدة العسكرية لحكومة ليبيا لمدة سنة. وفي كانون الثاني من هذا العام، أعلنت تركيا بأنها تنشر قوات في الدولة. ومنذئذ، شغلت عدداً متزايداً المقاتلين من سوريا للقتال في ليبيا؛ والتقديرات هي أنه ما لا يقل عن 100 ضابط تركي مسؤولون عن تنسيق الحملات العسكرية لحكومة الوفاق الوطني.
في الأشهر الأخيرة، استخدمت أنقرة أيضاً سلاحيها من البحرية والجو لمساعدة حكومة الوفاق الوطني، وجاء التأثير الأبرز من استخدام طائراتها المسيرة فوق ليبيا. وبالتوازي مع الاتفاق العسكري في تشرين الثاني 2019، وقعت تركيا وحكومة الوفاق الوطني أيضاً على اتفاق لترسيم الحدود البحرية بينهما، اتفاق رفضه تماماً حفتر وحكومات اليونان، ومصر، وقبرص، وفرنسا. كما أن المجلس الأوروبي شجب الاتفاق بصفته يخرق القانون البحري للأمم المتحدة. وقال وزير خارجية إسرائيل في ذاك الوقت، يسرائيل كاتس، في كانون الأول 2019، إن إسرائيل بينما تعارض الاتفاق "فهذا لا يعني أننا سنرسل سفناً حربية كي نصطدم بتركيا".
إن الجهود التركية لمساعدة حكومة الوفاق الوطني توجب تفسيراً في إطار السياق الإقليمي الواسع. فالعزلة المتزايدة لتركيا في شرق البحر المتوسط مثلما هي العلاقات المتوترة مع الإمارات، تدفعها إلى أن تأخذ المخاطر في ليبيا. وستساعدها علاقاتها مع حكومة الوفاق الوطني، ولا سيما اتفاق ترسيم الحدود البحرية، على إفشال الخطة الطموحة لإقامة أنبوب "EastMed"، المخصص لتصدير الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا عبر قبرص واليونان. لو نجح حفتر في احتلال طرابلس (بدعم من الإمارات ومصر)، لشكل هذا الإنجاز انتصاراً كبيراً للدول المعارضة لتركيا. من هذه الناحية، لا تحتاج أنقرة إلى شطب إنجازات حفتر العسكرية تماماً، إذ يكفيها وقف جزئي لمخططاته كي تحقق أهدافها الأساسية. في أعقاب الهزائم الأخيرة في أوساط قوات حفتر، كانت تقارير تفيد بأن مرتزقة فاغنر انسحبوا من ميدان المعركة في طرابلس، التطور الذي بلا بشك يفرح أنقرة. ومع ذلك، وفقاً للتقارير، ورداً على إخفاقات حفتر، نشرت روسيا طائرات حربية من طراز ميغ 29 وقاصفات سو 24 في القاعدة الجوية الجفرة في ليبيا، بينما تعرضت لتوبيخ نادر ومقصود من جانب قيادة إفريقيا للولايات المتحدة، وفي أعقاب ذلك أيضاً أظهرت تقارير بأن الولايات المتحدة تعتزم نشر لواء عسكري في تونس. إذا حققت حكومة الوفاق الوطني في نهاية المطاف السيطرة على منشآت النفط الليبية (التي بقيت تحت سيطرة حفتر)، فستجني تركيا فوائد اقتصادية مهمة كونها تنقصها مقدرات الطاقة بحد ذاتها، ومعقول الافتراض بأنها ستضمن عقوداً ربحية للشركات التركية التي ستساعد في إعادة بناء ليبيا. في الشهر الماضي، قال وزير الطاقة التركي فاتح دونماز إن تركيا ستبدأ في تنقيبات عن النفط في شرق البحر المتوسط بعد ثلاثة أو أربعة أشهر "في إطار الاتفاق مع ليبيا". كما يبدو أن لتركيا مخصصات بعيدة المدى للبقاء في قاعدة سلاح الجو الاستراتيجية في الوطية التي جرى احتلالها من قوات حفتر.
إن النجاح بعيد المدى للرهان التركي العسكري ليس مفهوماً من تلقاء ذاته على الإطلاق، إذا أخذنا بالحسبان الانعطافات الكثيرة التي مرت على ليبيا منذ 2011، وإمكانية أن تجبر أزمة كورونا أنقرة على تخفيف تطلعاتها. ومع ذلك، رغم أن التطورات الليبية بشكل عام لا ترتبط مباشرة بإسرائيل، ينبغي أن يثير تثبيت الوجود التركي في الدولة الإفريقية الشمالية اهتماماً لدى مقرري السياسة في القدس، لأنه سيؤثر على الآلية الداخلية في ليبيا، بل وسيكون لذلك أيضاً آثار إقليمية مهمة بسبب إضعاف المعسكر المتشكل بين اليونان – قبرص- مصر –إسرائيل. لقد برزت إسرائيل في تغيبها عن إعلان مشترك لوزراء خارجية قبرص، ومصر، وفرنسا، واليونان، واتحاد الإمارات في 11 أيار، والذي شجب التدخل التركي في ليبيا. يعكس الصمت الإسرائيلي معضلتها حول ما إذا كانت ترغب في أن تكون مشاركة في الحرب عن بعد في ليبيا. وبمراعاة أن علاقات إسرائيل مع تركيا إشكالية وأن العلاقات مع روسيا بقيت حساسة، على القدس أن تستعد لإمكانية نفوذ إقليمي متواصل بل ومتزايد لهاتين الدولتين، ولا سيما في ضوء تواصل امتناع واشنطن عن أخذ دور دبلوماسي أو عسكري أكثر فاعلية.