دار النقاش مؤخرًا حول ثلاث مسائل: الدعوة إلى تخصيص يوم موحد للصلاة من أجل الإنسانية؛ وفتح كنيسةٍ أبوابَها للمصلين المسلمين؛ وإعطاء الزكاة لغير المسلم. وتتصل هذه المسائل الثلاث بالسلوك الديني أثناء تفشي الأوبئة، كما تعكس التصورات الدينية المختلفة حول مفهوم العبادة ووظائفها (كالزكاة والصلاة والدعاء)، وما إن كانت العقيدة الدينية تجعل الفرد أكثر انفتاحًا على الأبعاد الإنسانية أو أكثر انغلاقًا على أبناء عقيدته، وتأثير ذلك على العلاقة بين أتباع الديانات في مثل هذه اللحظات الحرجة من تاريخ البشرية.
فكنيسة مارتا في برلين سمحت للمسلمين بأداء صلاة الجمعة فيها؛ نظرًا لضيق المساجد عن استيعاب المصلين بعد تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي في الصلاة، وهذه المبادرة -وإن كانت استثناءً- إيجابية ومهمة.
ولكن هل يمكن الزجّ بمسألة منع دفع الزكاة لغير المسلم في هذا السياق؟ إن الخلاف في ذلك قديمٌ، ولكن له منطقه الداخلي الخاص الذي لا علاقة له بموقف ضد "أهل الذمة"؛ فالزكاة عبادة وحق مالي معًا، ولذا رأى جمهور الفقهاء أن العلة فيها مركّبة من وصفين: الإسلام والفقر وفق تأويل محدد للنصوص، ولكن رأى فقهاء آخرون أن العلة هي إغناء الفقير المحتاج فقط دون النظر لكونه مسلمًا. ثم إن هذا الخلاف قاصرٌ على الزكاة الواجبة دون بقية الصدقات.
ولكن الأكثر إثارةً للاهتمام هو دعوة "اللجنة العليا للأخوة الإنسانية" إلى "يوم عالميّ للصلاة من أجل الإنسانية"، وقد وُجهت هذه الدعوة إلى المؤمنين من "مختلف الطوائف الدينية"، ونالت تأييد بابا الفاتيكان فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب.
ورغم وجود نظائر تاريخية لهذه الدعوة فإنها أثارت ردود فعل مؤيِّدة ومعارضة؛ فقد روّجها فنانون بتسجيلات مصورة، وأيدها سياسيون وشخصيات دينية (سنية وشيعية). وعارضها آخرون؛ بحجة أنها دعوة باطلة تخالف القرآن والسنة الصريحة، وأن النجاة من البلاء والوباء لا تكون إلا "بصلاة الموحِّدين وتَضَرُّع المؤمنين". بل إن أحدهم أصدر فتوى بحرمة الاستجابة لهذه الدعوة؛ لأن الصلاة مبنية على الاتباع، بينما الصلاة المدعوّ إليها مبتَدَعةٌ وتضرب أُسَّ "عقيدة الولاء والبراء"؛ كما قال.
لا يخفى البُعد السياسي لهذه المبادرة التي روّج لها فنانون مصريون وإماراتيون تحديدًا، وكانت هناك محاولة لإضفاء بُعد دولي عليها عبر تأييد الأمين العام للأمم المتحدة وغيره لها، واعتبرها هزاع بن زايد "ثمرة خير انطلقت من أبو ظبي". ثم إن اللجنة الداعية للمبادرة هي ثمرة "وثيقة الأخوة الإنسانية" التي وقّعها بأبو ظبي 2019 بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر.
وبعيدًا عن السياسة؛ فإن دعوة المؤمنين جميعًا إلى الصلاة والدعاء لرفع الوباء فكرةٌ تستحق التحليل والمناقشة من الناحيتين التاريخية والفقهية، إذ يجب ألا يصرفنا التوظيف السياسي عن الفكرة نفسها فنرفضها كليةً، خاصة أن بعض معارضيها استندوا إلى قناعات دينية تعكس تصورات تجانب المعرفة التاريخية والفقهية اللازمة.
فمن الناحية التاريخية؛ وقع مراتٍ الخروجُ الجماعي للدعاء والتضرع لرفع الوباء. يحدثنا الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ) أنه حضر الطاعون الأعظم (سنة 749هـ) في دمشق، وشاهد كيف أن أَرْغون شاه (نائب السلطان على الشام في العهد المملوكي وتوفي 750هـ) أمر الناس بالصوم ثلاثة أيام، ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة وسائر الطبقات في الجامع، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصلٍّ وذاكر وداعِ، ثم صلَّوْا الصبح وخرجوا بأيديهم المصاحف والأمراءُ حفاةٌ، وخرج معهم اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان، وجميعُهم باكون متضرعون متوسلون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا "مسجد الأقدام" (يقصد المسجد الكبير في حي القَدَم) وأقاموا به إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد فصلَّوا الجمعة "وخفف الله تعالى عنهم".
ويحكي المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ) في حوادث سنة 822هـ أنه نودي في القاهرة بالناس: أن يصوموا ثلاثة أيّام ليخرجوا مع السلطان الملك المؤيَّد (ت 824هـ) إلى الصحراء، فيدعوا الله لرفع الطاعون عنهم، وقد أقبل الناس إلى الصحراء أفواجًا، وفيهم العلماء والفقهاء ومشايخ الخوانق وصوفيّتها والأعيان وعامّة الناس.
وقد استمر الخروج الجماعي للدعاء لرفع الطاعون حتى العهد العثماني في القرن السادس عشر الميلادي، كما يستفاد من رحلة المستكشف العثماني أوليا جلبي (ت 1682م)، ومن دراسة نوخت فارليك عن "الطاعون والإمبراطورية" في العهد العثماني. ورغم أن طاشكُبري زاده (ت 1561م) خصص -في رسالة له- مبحثًا لمسألة الدعاء برفع الطاعون؛ فإنه لم يُشر -في النسخة الخطية التي رجعتُ إليها- لوقوع ذلك في زمنه، واكتفى بمجرد النقل عن السيوطي وابن حجر، فلعل الاجتماع للدعاء وقع بعده.
ويحكي ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) أنه لما اشتد الطاعون سنة 833هـ أمر السلطان باستفتاء العلماء: هل يُشرع الاجتماع للدعاء برفعه أو يُشرع القنوت له في الصلوات؟ وما الذي وقع للعلماء في الزمن الماضي؟ فجاءت الآراء متشعبة، ويمكن رَدُّها -من الخلاصة التي قدّمها ابن حجر- إلى ثلاث مسائل هي: أن الدعاء والتضرع والتوبة لرفع الوباء مشروعٌ؛ وأن الاجتماع لأجل ذلك لم يقع من السلف ولكنه أرجى للإجابة.
أما المسألة الثالثة -وهي القنوت لرفع الطاعون- فوقع الخلاف فيها؛ فالمفتي الشافعي قال بمشروعية القنوت في النوازل (ومنها الطاعون)، وأجاب الحنفيُّ والمالكيُّ بمنع ذلك (سنوضح أن الحنفية أجازوه)، وأجاب الحنبلي بوجود روايتين لمذهبه، والرواية المجوزة تخصّه بالإمام الأعظم وفي غير الجُمعة. فما كان من السلطان إلا أن اختار متابعة الصحابة والسلف، فامتنع عن الخروج للدعاء واختار أن يبتهل كلُّ أحد إلى الله تعالى في سره.
واللافت في هذه الوقائع التاريخية أن فكرة خروج اليهود والنصارى مع المسلمين لم تُثِرْ نقاشا؛ لأن الفقهاء لم يمنعوا خروج غير المسلمين مع المسلمين إلى الاستسقاء، ومن ثم انصرف النقاش كله إلى الموقف من خروج الناس التعبدي واجتماعهم للدعاء زمن الطاعون.
لكننا نجد أن النقاش بخصوص الدعوة التي ساندها البابا وشيخ الأزهر تمحور حول فكرة الجمع بين المسلمين وغيرهم تحديدًا في عبادة؛ فالمؤيِّد اعتبره إنجازًا غير مسبوق تجاوز فكرة الخلافات العقدية إلى التعبد للإله الواحد، والمعارض اعتبره "بدعة كفرية"!
ولو قارنّا بين المناقشات التاريخية والفقهية لجزئية الخروج للدعاء؛ لوجدنا أنها تمحورت حول سؤال مركزي هو: متى يُؤجَر المرء ومتى يأثم؟ ومتى لا يُؤجر ولا يأثم؟ وهو جوهر عمل الفقيه أصلاً. في حين نجد النقاشات اليوم انصرفت إلى أبعاد سياسية وعقدية حديثة، لا صلة لها بالنقاش الفقهي والكلامي والتاريخي القديم.
أما النقاش الفقهي المذهبي فله ثلاثة مداخل: الأول: حكم إنشاء صلاة لرفع الطاعون، وكيف نسوغ هذه الصلاة (هل نُلحقها بالكسوف أو بالاستسقاء؟ والثاني: هل يُشرع القنوت لعموم الكوارث والأوبئة (وهل يدخل فيها الطاعون)؟ والثالث: هل يُشْرَك اليهود والنصارى مع المسلمين في الدعاء لرفع الوباء؟
فيما يخص المدخل الأول؛ ليس ثمة نصٌّ (من خبر أو أثر) يُفيد بمشروعية إنشاء صلاة مخصوصة لرفع الطاعون والاجتماع لها، ومن ثم فإن النقاش الفقهي في القرون المتأخرة انصرف إلى مسألة: هل يصح القياس في التعبدات أو لا؟ والقياس هنا ليس بمعنى إنشاء عبادة مستقلة ابتداءً، بل بمعنى إلحاق واقعة جديدة بواقعة قديمة بجامع صفة مشتركة بينهما (كإلحاق الطاعون بالأوبئة وإلحاق الأوبئة بالكسوف أو الاستسقاء)، ثم إذا قلنا بالقياس فعلى ماذا نقيس هنا؟
تكاد الوقائع التاريخية تقتصر على ذكر الخروج للدعاء فقط، فلم أقف على وقوع الصلاة الجماعية في هذا المقام. وقد قرر ابن حجر أن الاجتماع للدعاء برفع الطاعون على هيئة الاجتماع للاستسقاء "بدعةٌ حدثت في الطاعون الكبير سنة 749هـ بدمشق"، ويُفيدنا بأنها وقعت في زمنه، ويبدو أنه خرج فيها أولاً ثم امتنع "من الخروج في هذه المرة الأخيرة"، لأنه رأى -مع آخرين- أن ترك ذلك أولى؛ لعدم ورود النقل بهذا، ولعدم وجود فرع فقهي مسطور فيه.
وقد رفض ابن حجر إلحاق الوباء بالاستسقاء أو الكسوفين؛ لأنه رأى أن "ألفاظ الدعاء وصفات الداعي لها خواص وأسرار يختص بها كل حادث بما يليق به، والمعتَمَد في ذلك الاتباعُ، ولا مدخل للقياس في ذلك"، فإلحاق هذا بذلك إحداثٌ في الدين ما ليس منه. وفي المقابل؛ نجد أن جماعة من العلماء خرجوا مع الملك المؤيَّد ومنهم شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني الشّافعي (ت 824هـ).
ولكننا لو رجعنا إلى المدونات الفقهية فسنجد أن الشافعية أثبتوا صلاة الكسوفيْن (كسوف الشمس وخسوف القمر) وأنها تُصلى جماعةً، لورود النص بذلك؛ ثم توسعوا فاستحبوا صلاة ركعتين عند حدوث الزلازل والصواعق، وقالوا: ينوي بهذه الصلاة سببَها المعيَّن، ثم اختلفوا: هل تُصلى في البيت أم خارجه؟ ولكن ماذا عن الطاعون تحديدًا؟ الواضح أن الشافعية لم يُلحقوا الطاعون بالزلازل، ومن ثم لم يجعلوا لها صلاةً مخصوصة.
أما متأخرو الحنفية فقالوا إنه تُسنّ في زمن الطاعون صلاةُ ركعتين ينوي بهما المصلي رفعَه، ورأوا أن الاجتماع لذلك أقرب إلى إجابة الدعاء، ولكن كلَّ واحد منهم يصلي منفردًا وإن كانوا مجتمعين. أي أنهم أدرجوا الطاعون ضمن عموم الأمراض والزلازل والصواعق والأمطار الدائمة، وغير ذلك من الكوارث والأوبئة، وجعلوه كالخسوف؛ إذ إنها جميعًا من "الآيات المَخُوفة"، والهديُ فيها أن يُصلي المرء منفردًا.
وذهب متأخرو المالكية إلى استحباب الصلاة لرفع الوباء أو الطاعون كالصلاة لدفع الزلازل تمامًا، ويمكن أن تقع هذه الصلاة جماعة أو فرادى، ولكن إذا دعا السلطان -أو من ينوب عنه- الناسَ إليها صارت الصلاة واجبةً في هذه الحالة.
ووجه إلحاق عامة الفقهاء الصلاة لرفع الطاعون بالصلاة للكسوفين والزلازل دون صلاة الاستسقاء؛ أن الاستسقاء دعاءٌ لجلب المطر، بينما الزلازل والأوبئة والريح والأعاصير وغيرها: علامات كونية تشبه الخسوف والكسوف؛ فيُطلب رفعها لا جلبها.
أما المدخل الثاني للموضوع، وهو القنوت في الصلوات العادية لرفع الطاعون؛ فقد اختلف الفقهاء فيه نظرًا لاختلافهم في القنوت نفسه ومحله وسببه: هل يكون فقط في صلاة الصبح أم فقط في الوتر؟ وهل يُشرع في النوازل (كالأوبئة والبلايا والكوارث)؟ وهل يدخل الطاعون في مفهوم الوباء أم يُستثنى لخصوصيته؟
ذهب الحنفية والشافعية (على المتعمَد من مذهبهم) إلى استحباب القنوت أثناء الصلاة للنوازل، والطاعونُ من أشدّ النوازل. وذهب الحنابلة إلى عدم مشروعية القنوت لرفع الطاعون تحديدًا، رغم أنهم استحبوا القنوت لوقوع النازلة؛ وذلك لأن الطاعون وقع في زمن عمر -رضي الله عنه- ولم يثبت أن الصحابة قنتوا له، ولأنه شهادة فلا يُطلب رفعها. ومنع القنوتَ للنوازل أيضًا المالكيةُ (على المشهور عندهم)؛ لأنهم رأوا أن القنوت لا يكون إلا في صلاة الصبح.
بقي المدخل الثالث، وهو مشاركة غير المسلمين للمسلمين في الدعاء والتضرع؛ فقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن غير المسلمين لا يُمنعون من الخروج للدعاء برفع الطاعون، بل إن المذهب الحنبلي يقول إن النصارى لا ينفردون بيوم دون المسلمين، أي أن اجتماعهم مع المسلمين يكون في يوم واحد، ومعنى هذا أن الصلاة من أجل الإنسانية تجري على المذهب الحنبلي نفسه.
وقال مكحول (ت 112هـ) وهو من كبار فقهاء التابعين: "لا بأس بإخراج أهل الذمة للاستسقاء مع المسلمين"، وقال الأوزاعي (ت 157هـ) فقيه أهل الشام: "كتب يزيد بن عبد الملك إلى عماله أن يُخرجوا أهل الذمة إلى الاستسقاء، فلم يَعِبْ عليه أحد من أهل زمانه". بل قال عبد الملك بن حبيب (ت 238هـ) وهو أحد كبار أئمة المذهب المالكي: "لا يُمنع اليهود والنصارى من الاستسقاء والتطوف بصُلُبهم وشرِكْهم، إذا برزوا بذلك وتنحَّوْا به عن الجماعة".
وتنبني على مسألة اجتماع المسلمين والنصارى واليهود للدعاء للاستسقاء مسألةٌ أخرى كلامية، وهي أن دعاءهم قد يُستجاب وإلا فلا معنى لخروجهم للدعاء. وقد بحث هذه المسألة فقهاء المذاهب وخلصوا إلى أن دعاء الكافر قد يستجاب أو يُقبل، وهو المفتَى به عند الحنفية. ورأى بعض متأخري المالكية أن كلام الفقهاء في باب الاستسقاء يقتضي عدم قصور الاستجابة على المسلم فقط. وبنى جماعة من متأخري الشافعية على إمكان قبول دعاء الكافر مسألةً أخرى، وهي جواز تأمين المسلم على دعائه.
يوضح هذا التنظير كيف يمكن أن ننتقل من الوقائع والنقاشات الجارية إلى علوم التاريخ والفقه والكلام؛ لبيان حجم التبسيط الذي يَسِم بعض الخطابات الدينية الحالية، وكيف أن الإرث الفقهي -الذي يتعرض اليوم للنقد السلبي- متقدمٌ جدًّا على مبادرات يُخيَّل لأصحابها أنها تقدمية؛ كما يبين أهمية النفوذ إلى عمق القضايا بعيدًا عن التجييش والتحزبات السائدة اليوم. إن القضايا الحادثة والمستجدة تتسم بطبيعة مركبة، ونحتاج في معالجتها فقهيا إلى منهجية متعددة التخصصات؛ فالتصورات البسيطة تُخل بالإرث الفقهي من جهة، وتقودنا إلى مواقف حدية أو أيديولوجية.
- المصدر: الجزيرة