العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة


تم النشر 27 إبريل 2020


عدد المشاهدات: 1379

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


(إن من المُسلّمات في دين الإسلام شموله وتكامله، حتى عدت من خصائصه ومزاياه، فقد شمل هذا الدين الإنسان كله؛ جسمه وعقله وروحه، كما شمل سلوكه وفكره ومشاعره، كما شمل دنياه وآخرته، وليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بعقيدة الإسلام ولا تتصل عقيدة الإسلام به، ومن ذلك الصلة بين العقيدة والأخلاق، فالعقيدة الصحيحة تستلزم التحلي بكل خلق فاضل والتخلي عن كل خلق ذميم).(البيان، العدد : 359).

ومن المقرر في الإسلام أن كل أموره المشروعة لا تقوم إلا على أصل الإيمان بالله؛ فإذا انتفى الإيمان انتفى العمل، ومن ذلك الأخلاق.
لذلك نجد في القرآن الكريم العلاقة واضحة بين العقيدة والأخلاق (فعندما يطالب القرآن أتباعه بالعدل، يذكر قبل الطلب وصف الإيمان للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي العدل فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8).
وعندما يأمر الإسلام بالصدق يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
وهناك آيات كثيرة توضح هذه العلاقة العظيمة بين الإيمان والأخلاق، فحينما يأمر بالقول السديد يربط بينه وبين الإيمان، يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب: 70).
وحين يأمر المؤمن أن يجتنب الظن السيئ والغيبة يبين أن من مقتضى الإيمان ترك تلك الأخلاق السيئة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} (الحجرات: 12).

ويبين الرسول العظيم في كثير من أحاديثه هذه العلاقة القوية بين العقيدة والأخلاق فحينما يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القسم: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قيل ومن يا رسول الله. قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". فهذا يبين بجلاء تام العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة، وحين يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره".
وحين يقول – عليه الصلاة والسلام -: "ليس بمؤمن من يشبع وجاره إلى جنبه طاوٍ". فهو يؤكد نفس المعنى.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كثيرا من الجوانب الأخلاقية ويربطها بالعقيدة والإيمان فيقول– عليه الصلاة والسلام -: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة ويترك المراء وإن كان صادقًا".
ويبين أن من كمال الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه من الخير بل للناس، قال – عليه الصلاة والسلام -: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله – عز وجل -".
كما ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والحياء، "الحياء والإيمان قرنًا جميعًا فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر". وقال: "الحياء شعبة من شعب الإيمان ولا إيمان لمن لا حياء له...".

ومن كمال الإيمان أن يكون المرء المسلم رحيمًا للصغير والكبير عارفًا لكل واحد منهما حقه؛ إذ الرحمة معهما تدل على خلق عظيم نابع من إيمان صادق، ففي الحديث: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا". ومن كمال الإيمان أن يكون المؤمن صابرًا راضيًا بقدر الله فلا يتبرم ولا يتسخط بل يسلم ويرضى هذا التسليم خلق عظيم، منبعه الإيمان بالله مما يدل على ارتباط الإيمان بالأخلاق.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وقال – عليه الصلاة والسلام -: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".
عن عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله: ما الإيمان؟. قال: "الصبر والسماحة" قلت: فأي الإيمان أفضل؟. قال: "خلق حسن".
وعن جابر بن عبد الله قال سئل النبي صلى الله عليه وسلمعن الإيمان قال: "الصبر والسماحة".

وقد نهى الإسلام أن يكون بين المؤمن وأخيه تشاحن وهجران؛ ذلك لأن العلاقة بينهما علاقة إيمانية فلا يحق لمن كان هذا حالهم أن يتهاجروا، لذلك جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مقتضى الإيمان ترك الهجر فوق ثلاثة أيام: "لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
بل حتى الكلام يجب أن يكون ضمن المنظومة الأخلاقية؛ إذ من مقتضى الإيمان بالله أن يكون كلام الشخص طيبًا فلا فحش ولا لغو ولا سب ولا شتم؛ لأن الإيمان يحتم عليه الانضباط ضمن أمر الشرع وحكمه قال – عليه الصلاة والسلام -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
قال ابن رجب عند هذا الحديث: (فقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فليفعل كذا وكذا ويدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان).
وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
ومن كمال الإيمان أن يكون المرء كريمًا سخيًا لأن الإيمان والبخل لا ينبغي أن يجتمعا في قلب مؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

وإن من كمال الإيمان أن يبتعد المؤمن عن الأخلاق الدنيئة من زنا وشرب خمر وسرقة ولعن؛ لأنها خصال تنقص الإيمان ولا تصلح للمؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وإنما أراد – والله أعلم - "وهو مؤمن" مطلق الإيمان لكنه ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة وترك من الانزجار عنها ولا يوجب ذلك تكفيرًا بالله – عز وجل.
(إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان).

وإننا نجد أن الأخلاق الحسنة من مكملات عقيدة المؤمن مما يدل على الارتباط الوثيق بينهما.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل كمال الإيمان في كمال الخلق). وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام إسلام المرء ومن واجبات الإيمان وحقوقه وخصاله كف اليد واللسان وأداء الحقوق للآخرين في الدم والمال وهي قيم أخلاقية عظيمة مما يدل على ارتباطها بالإيمان.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وزاد الترمذي والنسائي: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".
وقد ذكر أبو عثمان الصابوني أن من عقيدة أهل السنة والجماعة، التخلق بالأخلاق الكريمة والسجايا العظيمة مما يدل على أنها منبثقة من عقيدتهم التي يدينون لله بها ويختلفون بها عن غيرهم من الطوائف المنحرفة. فهم يأمرون (بصلة الأرحام على اختلاف الحالات وإفشاء السلام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبدار إلى فعل الخيرات أجمع واتقاء شر عاقبة الطمع ويتواصلون بالحق والصبر).
وقال ابن القيم رحمه الله: (حسن الخلق هو الدين كله وهو من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام... وقال الدين كله خلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين).
قال أبو العتاهية:
ليس دنيا بغير دين وليس      الدين إلا مكارم الأخلاق

وإننا نجد في كتاب ربنا أن بين العقيدة والأخلاق ترابطًا قويًا لا ينفصل عنها بحال.
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *‏ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(الأنعام: 151-153).
(ذلك هو الميثاق الأخلاقي الشامل الذي يلتزم به المؤمن اتباعًا لصراط الله المستقيم، فهو إذن جزء من العقيدة مرتبط بها ارتباطًا أساسيًا لا ينفصل عنه بحال).
قال ابن سعدي رحمه الله مبينًا ذلك أحسن بيان:
(ومن ثمرات الإيمان الصادق أن يقوي الرغبة في فعل الخيرات والتزود من الأعمال الصالحات ويدعو إلى الرحمة والشفقة على المخلوقات وذلك بسبب داعي الإيمان وبما يحتسبه العبد عن الله من الثواب الجزيل).
(ومن ثمراته أيضًا أنه ينهى عن الشرور والفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن ويحذر من كل خلق رذيل.. فهذه الأخلاق الحميدة هل يتوصل إليها بغير الإيمان وهل يعصم العبد من الانحلال الأخلاق المؤدية إلى الهلاك إلا الإيمان؟
وهل أودت بكثير من الخلق الأمور المادية والشهوات البهيمية والأخلاق السبعية، وهبطت بهم إلى الهلاك إلا حين فقدت روح الإيمان؟ وهل تؤدي الأمانات والحقوق الواجبة بغير وازع الإيمان؟ وهل تثبت القلوب عند المزعجات وتطمئن النفوس عند الكريهات إلا بعدة الإيمان؟ وهل تقنع النفوس برزق الله وتتم لها الراحة والحياة الطيبة في هذه الدار إلا بقوة الإيمان؟ وهل يتحقق العبد بالصدق في أقواله وأفعاله ومعاملاته ويكون أمينًا شريفًا معتبرًا عند الله وعند خلقه إلا بالإيمان؟ فكل أساس تنبني عليه هذه الأمور الجليلة سوى الإيمان فهو منهار، وكل رقي مادي لا يصحبه الإيمان فهو هبوط ودمار.
ألا وإن الإيمان يحمل العبد على الصبر على قضاء الله، والشكر لنعم الله، والشفقة على عباد الله، والتخلق بكل خلق جميل والتخلي عن كل خلق رذيل... والمؤمن يكون متصفًا بصفة التواضع للخلق والحق.. سليم القلب من الغش والغل والحقد، صدوق اللسان حسن المعاملة ،وصفة الحلم والوقار والسكينة والصبر والرحمة والوفاء والثبات... فهذه الخصال الجميلة من عقائد صادقة وأخلاق راقية وآداب سامية هل يمكن أن يتصف بها إلا المؤمن حقًا؟ وهي من أكبر البراهين على أن الدين بعقائده وأخلاقه هو الدين الحق...).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة:بناء الأخلاق،د.عبد الله بن سليم القرشي.




- انشر الخبر -