إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 131 - 133].
أيها الإخوة المؤمنون:
لقد نزل بالبشرية بلاء مديد ووباء شديد يسمى فايروس كورونا، يتكاثر في الخلايا، ويسبب المرض، وينتقل عن طريق الملامسة، ولهذا يُحذَّر من المصافحة، وعن طريق رذاذ المريض إذا عطس، ولهذا يلزم أن يعطس في محارم ورقية، وبعيدًا عن غيره مترًا على الأقل، وهذا الفايروس يبقى على الأسطح عدة أيام، ولهذا يلزم تعقيمها مرة بعد مرة.
أما من أصيب أو اشتبه به فيلبس كمامة؛ لئلا يتسبب بالعدوى لغيره، ويلتزم الحجر الصحي أربعة عشر يومًا، وهي أقصى مدة الحضانة للمرض، وإذا لم تظهر الأعراض فيتحرك بعد ذلك مع تدابير الوقاية.
ولا يذهب للمستشفى عند الاشتباه؛ وإنما يتصل بوزارة الصحة على رقم 103، وهم يتابعون أمره؛ لأنه قد يتسبب بالعدوى فيما لو ذهب بمن التقى بهم.
وينبغي أن يُعلم أن الفايروس إذا نزل بإنسان فيحصل هناك صراعٌ بين المرض ومناعة الجسد، ولهذا يُنصح بمقويات المناعة كالثوم والبصل والفواكه والحمضيات والأسماك والنوم الكافي، وعدم الإرهاق وعدم الفزع؛ فإنه يُفرز هرمونات تؤثر على المناعة.
وهذه التدابير وتلك الاحتياطات من مراشد الحكمة؛ فليس من الديانة ولا العقل التعامل باستهتار مع الوباء، فالأمر جد، وأكثر ما نملكه بعد التعلق بحبل الله هو احترازات السلامة بعد أن مات منه الآلاف، فالكثافة السكانية عندنا عالية، والتدابير الصحية قليلة، ولا بد من التفكير بمسئولية، وما زلنا بعافيةٍ لم تُسجَّل أي حالة عندنا حتى الآن، أدام الله علينا ذلك.
أيها الإخوة:
إذا تحقق الوباء ببلد:
اكتفى الناس بإلقاء السلام من غير مصافحة، ويُعتذر لمن شق عليه ذلك ولو لم يتفهم.
وحرم على المصاب ومن اشتبه به أن يشهد الجُمَع والجماعات والتجمعات، وعدم الالتزام بالحجر الصحي كارثةٌ لا تُحمد عقباها.
وجاز الترخص بصلاة الفريضة في البيت، وحبذا لو صُلِّيت جماعة، وإنما جاز ترك المساجد لأن نفس اجتماع الناس يُسبِّب العدوى بإذن الله، ولو علم السلف أن الطاعون ينتقل بذلك وكان كذلك لتركوه.
وتُقام الجماعة في المسجد بمن حضر، ويُفرَّق بين الصفوف وبين كل شخصٍ وآخر مسافة متر ونصف، وتُحسب لهم جماعة، ولو ضاق المكان بذلك واحتاج بعض الناس أن يصلي في الطابق الثاني أو الدور الأرضي جاز، بشرط أن تُوجد طريق يصل بها إلى صحن المسجد، ولو بانعطافٍ واستدارة، ولا يضر وجود بابٍ مغلق.
ولا يجوز الجمع بين الصلوات بسبب هذا الداء، بل من غاب بسببه فأجره محفوظٌ بفضل ربه، أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا".
وأقبل الناس على الله يتضرعون إليه أن يرفع الوباء ويكشف البلاء، وأكثَروا من الركوع والسجود، وبالغوا في الاستغفار والتوبة وإظهار الفقر والمسكنة لله جل جلاله، وردَّوا الحقوق والمظالم إلى أهلها.
وحرص الناس على تعقيم الأسطح وغسل الأيدي بالصابون مع فرك الراحة وظهر اليد جيدًا لمدة 20 ثانية على الأقل، لا سيما بعد لقاء الناس ومصافحة لم يتمكن من ردها؛ فإن الماء والصابون طاردٌ للفايروس كما أنَّ الخل قاتلٌ له.
والتُزم بما يصدر عن الجهات الرسمية؛ كوزارة الصحة والأوقاف والداخلية، ويُتقبل تدرجهم في التدابير خطوةً بعد خطوة، حتى لو وصل الأمر لإغلاق المساجد، ويحرص الناس على إقامتها في البيوت، وإذا وصل الأمر إلى منع الجُمَع فتصلى ظهرًا في البيوت، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
معاشر الإخوة الكرماء:
إن الأخذ بالأسباب وحده قد يحفظ العبد من الوباء لكن لا يحفظ قلبه وروحه من سكينة النفس وراحة البال، فأشرح الناس صدرًا مَنْ أخذ بالأسباب وتوكل على الله، واستشعر أن الأمر كله بيد الله، ولا يكشف الضر إلا الله، يتشبه بنبي الله أيوب الذي قال الله عنه بعد البلاء الذي مسه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].
وحتى لو نزل الداء بإنسان وقضى نحبه فيه فهي خاتمة حسنة، فقد أخرج البخاري في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد".
أيها الصلحاء:
إن هذا الوباء الذي أفزع العالم أجمع يريك عظمة الخالق، وضعف المخلوق، يريد هشاشة الغرب بما هم عليه من كبرياء المادة، يريك حدًّا لاستغناء الإنسان عن الله حتى طغى، {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق : 6 ، 7]، حتى ما يملك الواحد أن يخرج من بيته ولا أن يصافح أحدًا من الناس.
ومن علائم التوفيق والفقه أن تلتقط الإشارة، فما زلنا نرى تدابير وقاية لا قرائن هداية، {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
عباد الله:
ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة، وإلا فما الذي أرسل الطوفان على قوم نوح، والريح على قوم عاد، والصيحة على قوم ثمود، والطوفان والجراد والضفادع والقُمَّل والدم على قوم فرعون، وأخرج إبليس من رضوان ربه، وأهبط آدم من الجنة وخسف بقارون وبداره الأرض!.
إن الحجر الأسود كان أبيض من الصفا، وحين اجتمعت ذنوب الناس صار أسود مربدًا.
لقد زحمت الأرض اليوم بالذنوب الماحقات؛ سفكت الدماء، واعتقل الأبرياء، وانتهكت الأعراض، ونُهبت الثورات، وعطِّل شرع الله، فجاءت حلقةٌ جديدة من بأس السماء، حتى سمعنا بآلاف الموتى في الأيام السابقة، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
حدثني عن الصلاة المُضيَّعة، والحقوق المفرَّطة، حدثني عن الفواحش والربا، والتحايل على دين الله، حدثني عن العقوق ومنع الحقوق والميراث، حدثني عن الغش والكذب وقطيعة الرحم وقتل الإنسان وقهره، وبعد ذلك تعجب من بأس الله إذا جاء، ألم تقرأ قول الله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف : 107].
أليس من الداهية أن يُبحث الآن قرار إغلاق المساجد ومنع الجمَع والجماعات؟!.
إن جاز لنا أن نقول فنقول: يا كورونا أصب من أموالنا وأنفسنا وأعراضنا ما شئت، ولكن استبق لنا مساجدنا التي تئوب فيها أرواحنا إلى الله، استبق لنا الصلاة التي هي الترياق الذي نتصل به بالله.
استبق لنا رمضان وصلاة التراويح ولذائذ الاعتكاف والتهجد.
المرتجى الآن يا عباد الله أن تتضرعوا إلى الله أن يكشف عنا البلاء ويرفع الوباء، أظهروا لله الافتقار والانكسار، وتوبوا إليه واستغفروه، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17].
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا.
اللهم ارفع عنا الشدة واللأواء واكشف عنا البلاء، وعافنا من الوباء.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين، وردنا إليك مقبولين.
اللهم إن وقعت المصيبة في دنيانا وأبداننا فلا تجعلها في ديننا.
اللهم لا تحرمنا بركة المساجد ولا لذاذة التراويح وهناء التهجد.
اللهم لا تجعل منع الجُمَع والجماعات طردًا لنا عن بابك، وحجبًا لك عن رحماتك، نعوذ بك من كل ذنب يحول بيننا وبين غفرانك، نعوذ بك من كل ذنب يحول بيننا وبين حنانك ورضوانك.
اللهم لا طاقة لنا بسخطك، اللهم لا طاقة لنا بمقتك وغضبك.
اللهم إن نزل البلاء ولم يكن بك علينا غضبٌ فلا نبالي، لكن عافيتك هي أوسع لنا، لك العُتبى حتى ترضى، لك التوبة بعد التوبة حتى ترضى.
نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
والحمد لله رب العالمين.
وأصل هذا المقال خطبة خطبتها بمسجد السلام بالقرارة بتاريخ 25 رجب 1441 هـ الموافق 20 مارس 2020م.