كتب د.ناصر القدوة، رئيس مجلس إدارة مؤسسة ياسر عرفات، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عن القضية الفلسطينية والحالة العربية*.
يشكل العالم العربي البعد القومي للقضية الفلسطينية، ويشكل الموقف العربي الداعم لها الرافعة الأساسية للنضال الفلسطيني من أجل تحقيق الأهداف الفلسطينية الوطنية. والمطلوب هو أن يكون هذا الفهم جزءاً دائماً من الوعي الجمعي الفلسطيني، وأن يتحول إلى مواقف يومية نابعة من الحرص على الوضع العربي، وعلى العلاقة الرسمية والشعبية.
ثمة إشكالية كبيرة في الحالة العربية، مطلوب فهمها فلسطينياً، والمساهمة في معالجتها، وإيلاؤها الاهتمام والحرص والكياسة. وهذه الإشكالية تبدأ من حقيقة تعرّض عدد من الدول العربية لتدمير فعلي لأسباب شتى، بدءاً من العراق، إلى سورية وليبيا واليمن، فضلاً عن مشكلات كبيرة في دول أُخرى، الأمر الذي أدى موضوعياً إلى ضعف كبير في الحالة العربية، لا شأن للمواقف السياسية بها، إلاّ إنه عكس نفسه سلبياً، بطبيعة الحال، على كيفية تعامل مختلف الأطراف في عالمنا مع الواقع العربي وقضاياه، وبينها القضية الفلسطينية.
جانب آخر من المشكلة تمثل في بروز ونمو ظاهرة الإرهاب وارتباطها ببعض التيارات الإسلاموية، الأمر الذي حرص كثير من الجهات المعادية على تضخيمه وإعطائه معاني سلبية بشكل مقصود، وصولاً إلى العداء للإسلام والشرق عامة.
لقد سبّب هذا الأمر كثيراً من الصعوبات والمشكلات للحالة العربية داخلياً وخارجياً، وترافق مع موجات الهجرة غير المشروعة من مجتمعات عربية في اتجاه أوروبا تحديداً، وهو ما أدى إلى تعاظم الرفض والعداء للعرب والمسلمين، وترتّبت عليه خسارة كبيرة للقضية الفلسطينية التي باتت قطاعات واسعة في المجتمعات الغربية تربطها بالإرهاب والهجرة، بدلاً من ربطها بالجوانب العادلة لحركات التحرر في العالم.
جانب ثالث للمشكة تمثل في السياسات الإقليمية لإيران تجاه عدد من الدول العربية، والتي كان هدفها زيادة نفوذ الجمهورية الإسلامية في هذه الدول، وما استتبعها من ضعضعة لاستقرارها الداخلي وزيادة التوتر فيها.
هذه الحال ولّدت قلقاً عميقاً لدى بعض الدول، وخصوصاً في الخليج، بشأن استقرارها السياسي وسلامتها الإقليمية. وقد ترافق هذا الأمر مع التوتر السنّي - الشيعي الذي تسبب بنكسات داخلية كبيرة. وحتى لو سلّمنا بأن اللعبة أو النزعة الطائفية مصدرها إيران، فعلينا أن نؤكد أن مواجهة ذلك لا يكون بالانجرار إلى المنطق الطائفي، وإنما باتّباع سياسات لاطائفية تعود بنا إلى ما كانت عليه المنطقة ما قبل التوترات.
وما زاد الطين بلّة، هو العنصر الرابع للمشكلة، والمتمثل في تدهور الأوضاع الداخلية في عدد من الدول العربية، والذي قوبل بإجراءات قمعية، فضلاً عن ظهور خلافات حادة بين بعض الدول العربية أو معظمها وبين بعضها الآخر، واستقطاب أُخرى في محاور إقليمية وفي محاور مضادة. علاوة على ذلك، هناك التدخل العنيف واستخدام السلاح والمال والتكتيل والتآمر السياسي من جانب بعض الدول في مواجهة دول أُخرى قائمة أو منهارة، من دون أن يكون لذلك كله نتائج حقيقية غير التدمير.
هذه الصورة القاتمة والإشكالية الكبيرة والفظيعة، شجعت الإدارة الأميركية الجديدة التي وصلت إلى السلطة على أن تلغي رؤى استراتيجية لسابقاتها، وأن تطرح رؤى جديدة للشرق الأوسط، مستغلة أو مستفيدة من الوضع القائم، وأن تحاول تحقيق مكاسب كبرى لها ولإسرائيل، حليفتها في المنطقة، سواء أكانت هذه المكاسب سياسية أم مالية.
بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فإن الإدارة الأميركية تبنّت استراتيجيا تهدف إلى تغيير القواعد الثابتة المدعومة بتوافق دولي لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإلى تمكين الجانب الإسرائيلي من الاستمرار في التوسع الاستعماري، وهو ما استدعى إنكار الحقوق الوطنية، بل الوجود الوطني الفلسطيني.
واتخذت الإدارة خطوات وإجراءات ملموسة تنفيذاً لهذه الاستراتيجيا، فاعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارتها إليها، ورفضت حل الدولتين، وأنكرت وجود دولة فلسطينية، وشجعت الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية تمهيداً لضمّها.
الاستراتيجيا الأُخرى التي تبنّتها الإدارة الأميركية هدفت إلى تغيير طبيعة العلاقة العربية - الإسرائيلية ومحاولة بناء تحالفات بين الجانبين بعيداً عن القضية الفلسطينية، الأمر الذي تطلّب استبدال فكرة أن إسرائيل هي الخطر الرئيسي في المنطقة بفكرة أن إيران هي الخطر الرئيسي، وأن كثيراً من الدول العربية يحتاج إلى الولايات المتحدة، وربما إلى إسرائيل، من أجل ضمان أمنها في مواجهة الخطر الإيراني. وجرى فعلاً تنفيذ بعض الخطوات في هذا المجال، وإن بنتائج متفاوتة، ومنها محاولة بناء تحالف عسكري جديد في المنطقة يضم إسرائيل. وبعد فشل هذا جرت محاولة بناء "ناتو" عربي بمشاركة الولايات المتحدة أيضاً، لكن من دون نجاحات كبيرة، علاوة على بعض الخطوات التطبيعية بين بعض الدول العربية وإسرائيل، والتي كان أكثرها وضوحاً ما سُمي ورشة البحرين لتسويق جانب اقتصادي لخطة أميركية جديدة بشأن الشرق الأوسط.
واقع الحالة العربية قاتم للغاية، وهو يحتاج إلى حكمة، لكن أيضاً إلى شجاعة من أجل معالجته وتغييره، وعلى الأقل لكيفية التعامل الصحيح معه فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وهذا الأمر يتطلب، ضمن أمور أُخرى، حواراً صريحاً ومفتوحاً مع الأشقاء العرب، ونحن نأمل بأن تكون هذه المقالة جزءاً متواضعاً من هذا الحوار الذي يجب أن يبقى هادئاً وموضوعياً بعيداً عن بعض المزايدات والمغالطات في وسائل التواصل الاجتماعي.
يتطلب الأمر بداية إعادة توضيح طبيعة الخطر الإسرائيلي باعتباره الخطر الرئيسي دون غيره. والحقيقة أن هذا الجزء غير لازم بالنسبة إلى الدول العربية التي خاضت مواجهات عسكرية مع إسرائيل، والتي ما زالت تعاني جرّاء المخاطر المباشرة لها، لكنه قد يكون لازماً لآخرين، وخصوصاً بعض الإخوة في الخليج.
يبدأ الأمر بتأكيد أن القضية الفلسطينية، بأهميتها القومية والدينية والمعنوية، ستتضرر بشكل كبير من أي خطوة غير محسوبة وغير مبررة في الاتجاه الذي تحاول الولايات المتحدة دفع الأمور نحوه، وعلى جميع القادة العرب الوفاء لانتماءاتهم المبدئية على الرغم من الواقع الفلسطيني الذي نُقرّ بسوئه، والذي قد يكون سبباً في تراخي الموقف العربي.
إن تضرر المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني سيدمر كثيراً من الأعراف وقواعد العمل في المنطقة، وسيكون له تبعاته على الجميع، بما في ذلك بسبب الموقف الشعبي داخل العديد من هذه الدول.
لكن هذا في الحقيقة ليس الجانب الوحيد لطبيعة الخطر الإسرائيلي، والذي يجب أن يُفهم جيداً، بل إنه العقلية التوسعية الإسرائيلية، فيما بعد فلسطين، وعقلية الهيمنة السياسية والاقتصادية، كتلك السياسات الإسرائيلية التوسعية التي تهدد فعلاً الجولان السوري (اعترفت الإدارة الأميركية الحالية بضمّه من طرف إسرائيل في سابقة لا مثيل لها في ظل القانون والموقف الدوليين)، والجنوب اللبناني وسيناء المصرية (أو جزء منها على الأقل)، ولاحقاً الأردن.
أمّا عقلية الهيمنة السياسية والاقتصادية، فهي أمر أكثر تعقيداً ويتطلب فهمها معرفة وثيقة بإسرائيل، لكن الخلاصة هي أنه لن يكون ممكناً، في أي محطة، لأي دولة عربية خليجية إقامة علاقات طبيعية سياسية أو اقتصادية مع إسرائيل. فحتى النموذج الأميركي المسيطر سيكون جنة مقارنة بالفهم العنصري المتفوق للإسرائيليين، لأنه بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الخليج عبارة عن كنز لا صاحب له، وهو ينتظر القدرات والإبداعات الإسرائيلية.
مسألة الخطر الإيراني لا يمكن أن تكون بديلاً من الخطر الإسرائيلي، فضلاً عن التفكير في الاستعانة بالأخيرة لمواجهة الأولى. الطريقة الوحيدة الممكنة لمواجهة الخطر الإيراني، وربما النجاح في تغيير السياسات الإيرانية، هي الوقوف على أرضية عربية والإصرار على ذلك. وفي جميع الأحوال، فإنه ليس ممكناً تجيير الأمن القومي العربي لجهات أجنبية، ولا سيما إذا لم يكن لدى هذه الجهات أي سبب خاص بها لتتولى هذه المسؤولية، فالولايات المتحدة، وحتى إسرائيل، لن تذهبا إلى حرب مع إيران لمصلحة العرب، إذ ليس لديهما أي سبب لفعل ذلك، بل على العكس هناك سبب لعدم القيام به وهو استمرار ابتزاز تلك الدول العربية، وحتى استنزافها مالياً وبأشكال أُخرى. وحتى إذا حدثت مواجهة نتيجة خطأ ما لدى أي طرف، فإن الجانبين سيعملان على إبقائه في إطاره المحدد.
أمّا على المستوى التكتيكي، فإنه قد يكون للعلاقة مع إسرائيل بعض المنطق الانتهازي، مثل الحصول على بعض الدعم لأشخاص في مواقع القيادة، أو الحصول على معلومات من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أو محاولة الاستفادة من النفوذ الإسرائيلي في العاصمة الأميركية، والذي ربما يكون أهم سلعة تبيعها إسرائيل للدول الأُخرى. غير أن مثل هذه المكاسب التكتيكية لا يمكن أن يبرر الثمن الباهظ لها، أكان ذلك فورياً، أم على مدى زمن متوسط.
إن الحالة العربية، بعيداً عن المسألة الإسرائيلية، تتطلب مقاربة شاملة، بما في ذلك معالجة الأوضاع الداخلية في هذه الدول، وتحديد نمط علاقات صحي بينها، ومنها إعادة تنظيم العمل العربي المشترك ليصبح ذا مردود إيجابي لجميع المشاركين فيه، وليكون في قدرته بالتالي أن يشكل خيمة بديلة من الخيمة المهترئة، إن وُجدت، التي توفرها السياسات الأميركية - الإسرائيلية تجاه المنطقة.
واستراتيجياً، لا بد من العودة إلى التمسك بمركزية القضية الفلسطينية ومركزية الخطر الإسرائيلي في المنطقة.
* هذه الورقة منشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 120.