مرت الدعوة النبوية بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الدعوة السرية، ومرحلة الدعوة الجهرية. قال ابن إسحاق: "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سرّاً إلى من يطمئن إليه من أهله"، وقال ابن سعد في الطبقات: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين في أول نبوته مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة". وقالابن هشام في السيرة النبوية: "وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(الحجر: 15)". وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ليجتمع فيها بالمسلمين سرّاً، حفاظاً على دعوته وأصحابه، إذ كانت بعيدة عن أعين قريش وتفكيرهم، وبمعزل عن المتربصين بالمسلمين في مكة، وفي هذه الدار المباركة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه رضي الله عنهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم، ويعلمهم أمور دينهم، ويباحثهم في شأن الدعوة وما وصلت إليه، ويسمع شكواهم وما يلقونه من أذى المشركين وكيدهم، ويتحسس آلامهم وآمالهم، ويطلب منهم الصبر والثبات على دينهم، ويبشرهم أن العاقبة للمتقين .
ومن المعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان من أهم أعمدة الدعوة إلى الإسلام، فهو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال، وكان من أخصِّ أصحابه قبل البعثة وبعدها، عارفاً به وبأخلاقه وصدقه، قال البيهقي: "وهذا لأنه كان يرى دلائل نُبُوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمع آثَارَه قَبْل دعوته، فَحين دعاه كان قدْ سبق فيه تَفَكُّرُه ونَظره فأسلم في الحال".
أحبَّ أبو بكر رضي الله عنه أن ينتشر الإسلام بين الناس، وأن يسْرِي نوره في مكة والدنيا كلها، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أن يذهب إلى الكعبة، ويدعو المشركين إلى الإسلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ـ حفاظًا منه على الدعوة وعليه وعلى من معه من المؤمنين وهم قلة ـ، وبعد إلحاح من أبي بكر رضي الله عنه، وافق النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو بكر عند الكعبة، وقام في الناس خطيباً وداعياً لهم إلى أن يستمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به، فكان أول خطيب يدعو إلى الله، وما إن قام ليتكلم، حتى هجم عليه المشركون من كل ناحية، وأوجعوه ضرباً حتى كادوا أن يقتلوه .. وقد ذكر ذلك الموقف ابن كثير في البداية والنهاية عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا، ألحَّ أبو بكرعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يَزَلْ أبو بكريُلِحُّ حتى ظَهَر (وافق) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وتفرَّق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فَضُرِبُوا في نواحي المسجد ضرباً شديدا، وَوُطِئَ أبو بكر وضُرِبَ ضرباً شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين وَيُحَرِّفُهُمَا لوجهه، ونزا (وثب) على بطن أبي بكر حتى ما يُعْرَفُ وَجْهُهُ من أنفه.
وجاء بنو تَيْمٍ يَتَعَادَوْن (يسرعون) فَأَجْلَتِ (أبعدت) المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشُكَّون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبة بن ربيعة. فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة(والد أبي بكر) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (يطمئن عليه)؟ فَمَسُّوا منه بألسنتهم وعذلوه (لاموه)، ثم قاموا وقالوا لأمه أُمِّ الْخَيْر: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه؟ فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالى علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب (أخت عُمر، وكانت تُخفي إٍسلامها) فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أمَّ جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنتِ تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صَرِيعاً دَنِفًا (شديد التعب والمرض)، فدنَتْ أمُّ جميل وأعلنت بالصِّياح وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لارجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شئ عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أرى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. فَأَمْهَلَتا حَتَّى إذا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَسَكَن النَّاس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأكبَّ (انحنى) عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله وأكبَّ عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رِقَّةً شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِها، وأنتَ مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت".
في هذا الموقف لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها :
ـ حرص أبي بكر رضي الله عنه الشديد على نشر الإسلام، وقوة إيمانه وشجاعته، وجميل صبره، فقد تحمل الأذى والضرب الشديد من كفار قريش حتى أغمي عليه، حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته من شدة وكثرة الضرب والأذى الذي تعرض له حين دعاهم إلى الإسلام.
ـ مدى حبه رضي الله عنه الكبير والعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمع شدة الضرب والإيذاء الذي أصابه من كفار قريش ـ حتى أغمي عليه ـ، كان كل همه بعد أن أفاق أن يطمئن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه أقسم ألا يأكل ولا يشرب حتى يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويطمئن عليه.
ـ حب أبي بكر رضي الله عنه وبرُّه بأمِّه، وحرصه على أن يهديها الله إلى الإسلام، ومن ثم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لها، وقد كان رضي الله عنه حريصاً على هداية الناس الناس إلى الإسلام، فكيف بأقرب الناس إليه!!.
ـ حِكمة أم جميل بنت الخطاب التي كانت تخفي إسلامها، فقد كانت في غاية الحيطة والحذر, من أن يتسرب إلى قريش مكان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في دار الأرقم الذي كانوا يجتمعون فيها، فلم تخبر أبا بكر رضي الله عنه في بداية سؤاله عن مكان النبي صلى الله عليه وسلم، فهي لم تطمئن بعد إلى أمه أم الخير، لأنها ما زالت مشركة حينئذ، ولذلك لما سألها أبو بكر رضي الله عنه عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها: لا شيء عليك منها (يطمئنها حتى تخبره)، فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سالم صالح، وزيادة في الحيطة والحذر والتكتم لم تخبره بمكانه, إلا بعد أن سألها عنه قائلا: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم. وحين طلب أبو بكر رضي الله عنه الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، دون أن يشعر بهم كفار قريش, حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم.
كما في هذا الموقف أيضا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: سرعة استجابة الله عز وجل لدعائه حين دعا لأم أبي بكر رضي الله عنه بالهداية فأسلمت، ومثل ذلك ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة رضي الله عنه بقوله: (اللهم اهدِ أم أبى هريرة) فأسلمت بعد دعائه مباشرة.. فلرسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعوات المستجابة ما لا يُحصى، مما امتلأت به كتب السيرة والأحاديث النبوية، ولا يمكن لمن اطّلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجاهل الدلائل النبوية الكثيرة التي شهدها الصحابة الكرام بأعينهم في سرعة استجابة الله عز وجل لدعائه، مما يجعل المسلم على يقين كامل بأنه صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله عز وجل، وِمْن ثم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة تبوك: "يا رسول الله، إنَّ اللهَ عَوَّدك في الدعاء خيراً فادعُ الله لنا".