بعد أن اصطفى الله عزَّ وجل مريم عليها السلام وطهرها وأمرها بالاجتهاد في العبادة والمداومة على الطاعة، وأوصاها بالإخلاص، والخشوع والخضوع له سبحانه، تهيأت بذلك مريم عليها السلام للمعجزة الكبرى والآية العجاب وهي حملها بعيسى عليه السلام على خلاف العادة دون أب. قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: 45- 46). وكما بشرتها الملائكة بأنها المصطفاة الطاهرة جاءتها بشارة أخرى وهي أن المولى عز وجل اصطفاها لتلك المهمة العظيمة الشأن.
جاءت البشارة عن طريق جمع من الملائكة الكرام، وفي سورة مريم أتاها جبريل عليه السلام ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ (مريم: 19)، ولا مانع من تكرار البشارة، بشرتها الملائكة أولاً وعلى رأسهم جبريل، ثم تمثَّل جبريل عليه السلام في صورة بشرية فأعاد بشارتها، فأعادتها لتعجُّبها، زيادة في الاطمئنان واليقين واستفساراً عن كيفية تحقق هذه البشارة العجيبة.
عيسى عليه السلام كان ماسحاً يمسح بيده على المريض فيبرأ ويشفى، وكان ممسوحاً مسحه الله بالبركة، وباركه وكونه ماسحاً وممسوحاً جعله مسيحاً عليه السلام. وأما معنى المسيح عند النصارى فهو المكرّس للخدمة والفداء |
وسمَّى الله عيسى عليه السلام بأنه كلمته في هذه الآية (بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)؛ لأن عيسى خُلق ووجد بكلمة الله (كن) حيث أراد أن يخلقه خلقاً خاصّاً مباشراً، فقال له (كن)، وهذه هي الكلمة الإلهية، فكان ووجد كما أمر الله وهي الكلمة الواردة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، لقد خلق الله عيسى عليه السلام بكلمة (كن)، وعبر عنه بأنه كلمة منه كما خلق آدم بكلمة (كن). وأحال القرآن الكريم المستغربين من خلق عيسى على خلق آدم الذي خلقه الله بكلمة (كن) دون أب أو أم، قال تعالى:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59). و(من) في قوله (بكلمة منه): حرف جر وهي ليست للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية، أي أن هذه الكلمة من عند الله أي ابتدأت من عند الله وهي كلمة (كن).
وفي قوله تعالى (بكلمة منه) لفظة (من) ليست للتبعيض، إذ لو كان كذلك لكان الله متجزِّأً متبعِّضاً متحمِّلاً للاجتماع والافتراق، وكل من كان كذلك فهو محدَث، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل المراد من كلمة (من) ههنا ابتداء الغاية؛ وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة، صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر، فكان كونه كلمة الله مبدأً لظهوره ولحدوثه، هذا معنى (من)، ومعنى كونه (كلمة) لا ما يتوهّمه النصارى والحلولية. وكلمة الله التي ألقاها إلى مريم هي عيسى ابن مريم (اسمه المسيح ابن مريم)، فالمسيح سمّي بكلمة الله؛ لأنه وجد من غير أب بكلمة (كن) على خلاف أفراد بني آدم، فكان تأثير الكلمة في حقّه أظهر وأكمل.
المسيح لقب، وعيسى هو الاسم، وابن مريم الوصف، ولقب عيسى هو المسيح، وورد هذا اللقب إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم، ونرى أن لقبه (مسيح) جمع بين اسم الفاعل واسم المفعول، فمجموع الماسح والممسوح يكون (مسيحاً) صيغة مبالغة من المسح، فعيسى عليه السلام كان ماسحاً يمسح بيده على المريض فيبرأ ويشفى، وكان ممسوحاً مسحه الله بالبركة، وباركه وكونه ماسحاً وممسوحاً جعله مسيحاً عليه السلام. وأما معنى المسيح عند النصارى فهو المكرّس للخدمة والفداء.
وعيسى معناه السَّيد، وقيل: مشتق من العيس، وسُمّي به لأنه لونه -عليه السلام- كان أبيضاً مشرّباً بالحمرة، وعيسى أي: الخالص الذي يكون من شيء واحد لم يختلط بغيره، فكان خلْقه من شطر أمه فقط، دون أن يختلط هذا الشطر بشطر آخر من رجل فيكون أبا له ككل البشر. وابن مريم لقب لعيسى عليه السلام، ووردت جملة (ابن مريم) ثلاث وعشرين مرة في القرآن ينسب عيسى فيها كلها إلى أمه مريم. إن القرآن الكريم حريص على تمييز عيسى عليه السلام بالكلمات الثلاثة لما رافق خلقه وولادته وحياته من معجزات؛ ليؤكد على بشريته وينقض مزاعم النصارى حول ألوهيته، ونسبته إلى أمه مقصودة ومرادة؛ ليكذب من زعم أنه ابن الله، فالقرآن يبين لهم: أنه ابن مريم وأمه معروفة، أنتم تعرفونها عن يقين، فكيف صار ابناً لله مع أنه ابن مريم؟
إنَّ ولادة عيسى عليه السلام من غير أب تبين قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الفاعل المختار المريد، وأنه لا يتقيد في تكوينه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها، فالأسباب الجارية لا تقيد إرادة الله لأنه خالقها ومبدعها ومدبرها والأشياء لم تصدر عن الله كما يصدر الشيء عن علّته، والمسبَّب عن سببه من غير أن يكون للعلة إرادة في معلولها، بل كانت بفعله -سبحانه- وبإرادته التي لا يقيدها شيء. كما أن خلق عيسى عليه السلام من غير أب صورة مكملة للصور الأربع التي ضربها الله أمثلة ناطقة بقدرته العظيمة على الخلق، وهي:
سيكلم عيسى عليه السلام الناس في المهد، فور ولادته وذلك عندما يفاجؤون بمريم تحمله وتذهب بهم الظنون كل مذهب، فينطقه الله وهو ابن ساعات ويكلم الناس ويقدم نفسه إليهم، ويبرئ أمه من كل تهمة |
- الصورة الأولى: الخلق من العدم، فمن التراب أوجد الله سيدنا آدم عليه السلام أبا البشرية، وهو مثال واحد لم يتكرر في الخلق.
- الصورة الثانية: إيجاد أنثى من ذكر، لا أم لها فأوجد الله سبحانه زوج آدم -وآدم عزب ليس له زوج- وهو مثال واحد، لم يتكرر في الخلق.
- الصورة الثالثة: إيجاد ذكر من أنثى لا أب له، فأوجد الله سبحانه وتعالى سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام ومريم عذراء ليس لها زوج وهو مثال واحد لم يتكرر في الخلق.
- الصورة الرابعة: إيجاد الأبناء والبنات من زوجين ذكر وأنثى وهي الصورة المتكررة، وسنة الله في الخلق.
ومن صفات عيسى عليه السلام المذكورة في هذه الآيات: (وجيهاً في الدنيا والآخرة)، إنه ذو وجه ومنزلة عالية وذو شرف وكرامة عند الله في الدنيا وحفظه وحماه من أعدائه، وفي الآخرة حيث جعله في أعلى منازل الجنة مع سائر المرسلين، يقال هذا وجيه: إذا كان شريفاً يقدره الآخرون.
إنّ عيسى عليه السلام من عباد الله المقربين، الذين قربهم الله منه وأعلا منازلهم عنده، والمقربون هم السابقون الذي يسبقون أصحاب اليمين إلى الجنة، ومنازلهم في الجنة أعلى من منازل أصحاب اليمن، والمرسلون هم أئمة المقربين السابقين.
سيكلم عيسى عليه السلام الناس في المهد، فور ولادته وذلك عندما يفاجؤون بمريم تحمله وتذهب بهم الظنون كل مذهب، فينطقه الله وهو ابن ساعات ويكلم الناس ويقدم نفسه إليهم، ويبرئ أمه من كل تهمة. كما أنه سيكلمهم في حال كهولته (وكهلاً) الكهولة في الأربعين وقيل ثلاث وثلاثين، والكهل ما اجتمعت قوته وكمل شبابه، وذكر هنا كلامه في الكهولة لتشير أمُّه بأنه سيبلغ مبلغ الرجال، وقيل لبيان فصاحة كلامه وبلاغته في المهد وفي الكهولة على السواء، وقيل إشارة إلى أنه سيرفع إلى السماء ثم ينزل إلى الأرض في آخر الزمان فيكلم الناس ومن فوائد كلامه في الكهولة أيضاً: هداية الناس إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
وأما سمته والموكب الذي ينتسب إليه (ومن الصالحين)، معدود فيهم، والصالح: من صلحت سريرته وعلانيته بالإخلاص لله فختم الله تعالى أوصاف عيسى عليه السلام بالصلاح، وهو رتبة من أعظم المراتب وأشهر المقامات، والصلاح يقتضي المواظبة على الطاعات حتى الممات. وهكذا بشَّرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فتضمنت نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه وظهر في هذا النسب أن مرجعه أمه ثم تضمنت البشارة صفته ومكانه من ربه.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
مراجــع البحث:
- د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، ص (101 : 106).
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ، 2001م، 2/667 - 668 - 670.
- الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ، 3/160.
- د. صلاح الدين الخالدي، القصص القرآني، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419هـ، 1998م، 4/ 203 : 206.
- السمين الحلبي، الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق: أحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط3، 2011م، ص 2/173.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة: ط 38، 1430هـ، 2009م، 1/ 398.
- فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي، دار الفكر للطباعة، دمشق، ط1، 1401ه- 1981م، 8/49.
- محمد صالح المنجد، تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2016م، ص 557.