حتى تدب فيك الحياة: اعتمر دون أناة د. محمد بن محمد الأسطل


تم النشر 22 إبريل 2019


عدد المشاهدات: 2059

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


حَتَّى تَدُبَّ فِيْكَ الحَيَاةُ

اعْتَمِر دُوْنَ أَنَاة

 

مِن جانب جبل الصَّفَا حيث دار الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه-، وَعَينِي تتأمل الكعبة المشرفة التي جعلها الله قيامًا للناس، وعلى مقربةٍ من بئر زمزم الذي تَفَجَّرَ تحت قَدَمَيْ إسماعيل -عليه السلام-، ومقام إبراهيم؛ ذاك الحجر الذي اعتلاه خليلُ الله إبراهيم -عليه السلام- يبني البيت العتيق؛ خَطَطتُ لك هذه الكلمات..

 

حبيبي في الله:

أُحَدِّثُكَ عن حَنِينِ الأفئدةِ الذي هَتَفَ بِهِ إبراهيم -عليه السلام- يومًا: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37]؛ لأقول لك:

حَتَّى تَدُبَّ فيك الحياة؛ اعتمر دون تَردد أَو أَناة!

 

وحتى لا يُوسوس لك الشيطان بِعِلَّةِ الفقر والمسكنة؛ أطرح عِلَّتكَ أرضًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- بسند صححه الألباني.

 

شاهدٌ عدل:

زارني أَحَدُ إِخْوانِي ممن تمنى العمرة بِصُحبَتِنَا، لكنه شكا فَقْرَهُ؛ فَتَلَوتُ عليه حديث نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ فَشَقَّ اليَقِينُ به شِغَافَ قَلبِه، وخرج معنا، وليس معه سوى [500 ريال]؛ لنفقته، وهناك ومن حيث لم يحتسب رزقه الله تعالى قرابة [2000 دولار]، فقضى دينه، وأتى بهدايا تسر أهله، ولله الفضل من قبل ومن بعد!!

 

إذا تقرر هذا؛ فأراني مطمئنًا إلى إعلانها بِكُلِّ وُضُوحٍ وَجَلاء:

إِذَا افْتَقَرْتُم فَاعْتَمِرُوا!!!

 

أَمَّا عن رحلتنا؛ فَهَاكَ طَرفًا من أحداثها وجيزًا عنها:

ركبنا الطائرة فَكَبَّرْنَا لَمَّا عَلَونَا، وَعَجِبنَا كيف نحن في جو السماء دون أعمدة؟!

نظرنا إلى الأرض؛ فإذا هي صغيرة، فعجبنا لهذا الإنسان؛ أنى يتصارع على الدنيا ناسيًا رب هذا الكون الفسيح؟!

 

وصلنا المدينة النبوية وقلوبنا تَخْفِقُ بكل خطوة تتقدم إلى مسجد نبينا -صلى الله عليه وسلم-، الذي جعله الله منقذًا لنا من ظلمات الشرك وعبادة الأصنام إلى نور التوحيد والإيمان، ثم ارتعشت أجسادنا وهي تدخل الروضة، وما أدراك ما الروضة؟ إنها قطعةٌ من أَرضِ الجَنَّة، سواء منها، أو ستنقل إليها!!

 

دَخَلْتُ من بَابِ السَّلام، وَصَلْتُهَا، صَلَّيتُ فِيهَا قُبالة منبرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وشعرت أنه -صلى الله عليه وسلم- يخاطبني بأحاديث أحفظها، رأيت أعمدتها، مكتوبٌ على بعضها: هذه اسطوانة الحرس؛ حيث كان يجلس حرسه من الصحابة -رضي الله عنهم-!

 

وهذه اسطوانة الوفود؛ حيث كان يجلس نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع الوفود الزائرة يرغبهم في الإسلام..

 

وهذه اسطوانة التهجد؛ حيث تستقر جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدة عندها، وأزيز صدره يَرُجُّ المكان خشيةً من الله تعالى!

 

مشيت خطوات؛ وإذا بي أمام قبر رسول البشرية، ورائد الإنسانية، فَسَلَّمْتُ قائلًا: السلام عليك يا حبيب الله، يا خليل الله، يا نبي الرحمة، يا نبي الهدى، يا طاهر، يا طُهْر، ثم سَلَّمْتُ على صاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

 

جولة في المدينة النبوية:

ومضيت أُصَلِّي في الحرم المدني والركعة بألف، ثم مِلْتُ إلى مقبرة البقيع، التي تضم أزيد من [10000 صحابي بين دفتيها، كلهم قد أتعبوا نهارهم، وأسهروا ليلهم لِيَصِلَنَا الدين، فَرَضِيَ الله عنهم جميعًا.

 

ثم توجهنا لِجَبلِ أُحُد الذي يُحبنا ونُحبه، بل اهتز طربًا بِمَوقِفِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- عليه، ورحت أروي لإخواني أحداث المعركة من على جبل الرماة، الذي سُكِبَت فيه دماء عشرة من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يؤمهم عبد الله بن جبير -رضي الله عنه.

 

ثم نزلنا إلى ساحة المعركة، ورأينا قبر حمزة وإخوانه -رضي الله عنهم-، وفي مخيلتي السَّيل الذي أتى مقبرة أُحد قبل سنوات، حتى ظهرت الجُثث كما هي كَأَنَّكَ دَافِنُهَا بِالأَمس، فَتَقَدَّمَ الشيخ محمود الصواف أحد علماء العراق الذي أفاد بقوله:

دُعيت فيمن دُعِي من العلماء لإعادة الدفن، وحضرت هذا بنفسي، وكنت ممن دفن حمزة -رضي الله عنه-؛ إذ عرفته بأمارة التمثيل الحاصل في جثته، وهو ضخم الجثة، مقطوع الأنف والأذنين، وبطنه مشقوقٌ، فلما حَرَّكْتُهُ ورفعتُ يدَهُ وَإذَا بِالدَّم يَنزِفُ منه -رضي الله عنه- [1]!!!

 

وَإعمَالًا للسنَّةِ زُرنا مسجد قُباء يوم السبت، وصلينا فيه؛ فَرَكعتان فيه بِعُمرةٍ؛ فقد أخرج ابن ماجه وغيره من حديث سهلِ بن حُنيفٍ أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ" وقد صححه الألباني.

 

رحلة إلى الله:

وبعد أن طَعِمنَا المطعم الزكي في الحرم المدني، ورُدَّت أرواحنا إلى قلوبنا؛ ذهبنا إلى ميقات ذي الحليفة، واغتسلنا طهارة لأنفسنا من الآثام، ولبسنا الأكفان البيضاء؛ لِنُؤَاخِي الأموات في لباسهم، ولا عجب؛ فِكِلانَا رَاحلٌ إلى الله، ولسان حالنا دعاء ربنا أن يُبَيِّضَ قُلوبَنا، كما بيَّضَ ثيابنا!

 

ثم أحرمنا بالعمرة، وبدأ العمار يلبون: لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك لك، فلبينا وحديث نبينا -صلى الله عليه وسلم- ماثل أمامنا: "ما أهل مُهِلٌّ قط و لا كبر مُكَبِّرٌ قط إلا بُشِّر بالجنة"، أورده السيوطي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بسندٍ حسنه الألباني.

 

وكلما دنونا من مكة؛ اهتزت قلوبنا طربًا واشتياقًا لرؤية الكعبة، فما إن وصلنا الحرم؛ حتى ضج العُمَّارُ بِالبُكَاء، والكُلُّ يُرَدِّدُ في هيبة ووقار: اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا، فالبيت كما قال ابن القيم:

إذا ما رأته العين زال ظلامها 
وزال عن القلب الكئيب التَّأَلُّمُ 

 

ولحقنا بِرَكْبِ الطَّائِفين في مسيرة الطواف التي ما زالت تسير منذ [5000 سنة] في أَجَلِّ موكب وأطوله، وبدأت أطوف وَكَأَنِّي في الجَنَّةِ، كيف لا؛ وأنا في حضرة ملك الملوك، على بساط ملكه، وَلم أَنْسَ طَوافَ إِخوانِي الملائكة فوقنا حول البيت المعمور في السماء!

 

وانطلقت من قبالة الحجر الأسود، مرورًا بالملتَزَم، والمُقَام، والحِجْر، حتى وَصَلْتُ إلى الرُّكنٍ اليماني أًمسحه؛ استجابةً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن مسح الحجر الأسود و الركن اليماني يحطان الخطايا حطًا" أخرجه أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بسندٍ صححه الألباني.

 

وتأملت موضع دار الندوة شمال الحِجر وَكيفَ اجتمع أَئِمَّةُ الكُفرِ يُخَطِّطُونَ لِمَقتلِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ واليوم هي في رِحَابِ المسجد، ومئات الألوف تُعلِنُ التَّوحيدَ لِرَبِّ الأنام..

 

وتذكرت إمامةَ جِبريل بِمُحمَّد عند البيت في يومين متتالين يعلمه مواقيت الصلاة، وتخيلت ابن مسعود -رضي الله عنه- كيف صدح عند البيت بِفَاتِحةِ سورة الرحمن؛ لِيَكونَ أولَّ صَادحٍ بِالقُرآن عنده؟ وكذا حمزة -رضي الله عنه- لما شج رأس أبي جهل وهو يقول: أًتشْتُمُ مُحمدًا وأنا على دينه؟!

 

ماء زمزم لما شرب له:

فَلَمَّا تَمَّ الطواف؛ صليت خلف مقام إبراهيم ركعتين؛ إعمالًا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ارتويت من ماء زمزم، بعد أن قلت: اللهم إن نبيك -صلى الله عليه وسلم- قال: ماء زمزم لما شرب له، وإني أشربه لكذا، وكذا!

 

فهذا ابن القيم يشربه لشفائه من أدواء ألمت به؛ فشفاه الله، ولم يكن بمكة يومها أطباء!

 

وشربه الخطيب البغدادي ليكون مُحَدِّثًا بجامع المنصور، ومؤرخًا تاريخ بغداد، ومقبورًا بجوار قبر بشر الحافي، فمنَّ الله عليه بأمانيه الثلاثة!!

 

وشربه عبد الله بن المبارك، وقال: اللهم إني لأشربه؛ لطول عطش يوم القيامة!!

 

ثم رحت أسعى بين الصفا والمروة؛ متذكرًا هاجر وهي تسعى بحثًا عن الماء لرضيعها، حتى أجابها الله ببركة توكلها عليه، ودعوت الله طويلًا طويلًا طويلًا عند الصفا والمروة؛ إذ الدعاء في الموضعين مُجَابٌ لا يُرد، فَلَم أَقطع الدَّعوات إلا وقد انتهيت من كل مَأربٍ أبتغيه!

 

وشعرت حقًا أن الله يُريد أن يتوب علينا، ويغفر لنا، ويعف عنا، بل الأمر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم" أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بسند حسنه الألباني.

 

وأخيرًا ذهبت لِحَلقِ شعر رأسي، وحديث نبينا -صلى الله عليه وسلم- ماثلٌ أمام عيني: "أما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة" صحيح الجامع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بسند حسنه الألباني.

 

ومضينا نتلو القرآن، ونصلي بجوار الكعبة، والركعة ب [000 100] ركعة!!

 

وبلغة أخرى:

لو صليت صلاة واحدة في الحرم؛ كأنك صليت في بلدك [54 سنة و10 أشهر تقريبًا]!!

 

وشاء الله تعالى أن نصلي على جَنازَةٍ بعد كل فَريضةٍ؛ لِنَتَّعِظَ دَومًا، ونزداد أجرًا؛ إذ فضيلة صلاة الجنازة قيراط من الأجور، والقيراط كَجَبَلِ أُحُد، فكيف لو حَظِيتَ بمئة ألف قيراط بعد كل صلاة؟!!!

 

وبصحبة الرفقة الإيمانية الصالحة أخذنا جولةً على غاري ثور وحراء، وعلى جبل عرفات، والمشعر الحرام مزدلفة، وكذا مِنَى، وفيها مسجد البيعة الذي بايع الأنصار فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم- بيعةَ العقبة الثانية.

 

وَبِالجُملة شَعرتُ كَأَنَّ اللهَ تعالى أدخلني الجنة وأنا في دار العمل، فأحببت تشويق إخوتي بِطَرفٍ من مُتعتِي وَسَعادَتِي، وإن كان الخَبَرُ ليسَ كَالمُعَايَنةِ؛ لكني أَحببتُ الخَير لِغَيرِي، كَمَا أَحبَبْتُهُ لِنَفسِي.

 

هَذَا، وَصَلِّ اللهُم وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين.

 


[1] ذكر هذا الشيخ طارق السويدان، في سلسلته: قصة النهاية، وأنه سمعها من الشيخ مباشرةً.

ولهذا القصة أختٌ ذكرها أهل العلم، وإليك مفادها:

أورد البيهقي في دلائل النبوة، والواقدي في المغازي، وابنُ كثيرٍ في السيرة النبوية أن جابر - رضي الله عنه - قال: لما أجرى معاوية - رضي الله عنه - عين الكاظمة عند قتلى أُحُد استصرخنا إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة - رضي الله عنه - فانبعث دمًا. والمسحاة: آلة من حديد يكسر بها الفلاحون الكتل الترابية لقطع صغيرة.

فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: لا ينكر بعد هذا منكرٌ أبدًا.

وفي رواية ابن إسحاق عن جابر - رضي الله عنه - قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس!

وقال أيضًا - رضي الله عنه -: لما حفرنا عنهم وجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح - رضي الله عنه -ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دمًا!

ويقال: إن معاوية لما أراد فعل ذلك نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيل بِأُحُدٍ فليشهد، فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطابًا يتثنون، ثم إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك - رضي الله عنهما -.

وقد عدَّ الفقهاء نقل شهداء أُحُد من قبورهم من قبيل جواز مشروعية استملاك العقار الخاص للمنافع الحاجية العامة. انظر: البيهقي/ دلائل النبوة [3/352)، الواقدي/ المغازي (1/265)، ابن كثير/ السيرة النبوية (3/86)، مجلة البحوث الإسلامية (7/266).

 



رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/49296/#ixzz5lrE5kARZ




- انشر الخبر -