شيءٌ من الأمل إحسان الفقيه


تم النشر 22 إبريل 2019


عدد المشاهدات: 1819

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


«يا أخت إحسان، العزاء في ثلاث، واليوم هو أول أيام مأتمنا في مصر، نعم، وطننا اليوم نأخذ فيه العزاء، في يومٍ علا فُجّارُها أبرارَها، وانتفش الباطل معلنًا تلك الكلمة الموروثة في أرض سجن يوسف (أنا ربكم الأعلى).
هنا يا سيدتي يساق الناس تحت سياط التهديد والبطش للتصويت من أجل بقاء الفرعون، هنا يُحشد الناس لقول (نعم) على ما لا يدركون له كُنْهًا ولا وصفًا، هنا يرقص الناس رغمًا عنهم رقصة الموت، ويهتفون بحياة الزعيم وهم له لاعنون.
يا سيدتي أرض الكنانة اليوم سقطت سقوطها الأخير في قبضة فرعون، لا يعرف إلا الحديد والنار، يبيع بلاده، ويقهر شعبه، ويُفقّر رعيته ويجبرهم على رسم أمارات الابتهاج به على وجوههم المتعبة، ويبدأ عصرًا جديدًا من توريث السلطة التي صعّد إلى أزمِّتها أبناءه، في الوقت الذي يمضي بالبلاد إلى هاوية صفقة القرن».
جزءٌ من رسالة نازفة وصلتني من أحد الإخوة المصريين، تتحدث بلسان الملايين من أبناء هذا الشعب، الذي يجبر على التصويت للتعديلات الدستورية، التي تضمن للسيسي البقاء في السلطة، ومزيدا من التحكم في مقدرات البلاد ورقاب العباد، يخبرني هو وغيره أن ضباط وعناصر الأمن يجوبون المقاهي والمحلات، لإرغام الناس على تعليق لافتات مؤيدة لتعديلات السيسي، وكلهم يفعل خوفًا من البطش والقمع، ويتجهون بدافع الخوف إلى اللجان التي تلتقط الكاميرات لحشودها الصور، ويطبل لها الإعلام الموالي للسلطة، الذي يعمل على إبراز شعبية زعيم الانقلاب.
هممت بنشر الرسالة كاملةً، إلا أن الجراح النازفة في كل قُطرٍ في الأمة منعتني، فأنّى اتجهتُ إلى بلدٍ أراه مقصوصا جناحاه اقتباسًا من الشاعر، ولا أدري هل يكون البكاء على مصر التي ضيعها السيسي؟ أم على العراق التي صارت أطلالًا وغدت محافظة إيرانية؟ أم على سوريا التي أصبحت مسرحًا لحرب كونية على يد عصابة الأسد؟ أم على اليمن التي يموت أهلها جوعًا ومرضًا بسبب حرب لا يراد لها الانتهاء؟ أم على بقية الشعوب التي تئن تحت وطأة الفقر والاستبداد السياسي؟ الجراح كثيرة، صادف استحضارها وقت وصول هذه الرسالة، ما قرأت في كتاب «كليلة ودمنة» بما يعبر عن واقع الأمة: وكأن الخير أصبح ذابلاً، والشر أصبح ناضراً. وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله. وكأن الحق ولّى كسيراً وأقبل الباطل تابعه. وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موكلاً؛ وأصبح المظلوم بالحيف مقراً والظالم لنفسه مستطيلاً. وكأن الحرص أصبح فاغراً فاه من كل وجهةٍ يتلقف ما قرب منه وما بعد. وكأن الرضا أصبح مجهولاً. وكأن الأشرار يقصدون السماء صعوداً. وكأن الأخيار يريدون بطن الأرض؛ وأصبحت الدناءة مكرمةٌ ممكنةٌ؛ وأصبح السلطان منتقلاً عن أهل الفضل إلى أهل النقص.
هذا القدر من الحقيقة نتفق عليه جميعًا، ولكن ماذا عن الأمل في ظل هذا الجحيم؟
البعض سوف يسخر عندما يقرأ هذه الكلمة التي لم يعد لها وجود في قاموسه كمعظم الناس، والبعض الآخر قد يتهمني بالدعوة إلى الإغراق في الأوهام هروبًا من الواقع.

ينبغي أن لا نفقد الأمل، الأمة مرت عبر تاريخها بأبشع مما هي عليه الآن، مع واقع مُشابه في عمالة وخيانة الحكام وتشرذم الأمة وتفككها

لكنها الحقيقة، ينبغي أن لا نفقد الأمل، الأمة مرت عبر تاريخها بأبشع مما هي عليه الآن، مع واقع مُشابه في عمالة وخيانة الحكام، وتشرذم الأمة وتفككها واستعانة أبنائها بالأعداء على الأصدقاء، لك أن تتخيل مثلًا حجم الكارثة التي ألمّت بالأمة إبان الغزو التتري الذي اجتاحها، يعبر عنه المؤرخ ابن الأثير بقوله «لو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها»، مع العلم لم يدرك ابن الأثير فاجعة أكبر حدثت بعد حوالي ربع قرن من وفاته، وهي تلك المذبحة البشعة التي ارتكبها هولاكو ملك التتار في بغداد، قدر بعض المؤرخين عدد ضحاياها بمليوني قتيل، حتى امتلأت شوارع بغداد بالجثث المتعفنة، وانتشر الطاعون، ودبت الهزيمة النفسية في الأمة وبلغت مبلغًا عظيمًا.
ربما لا يعلم كثير من أبناء الأمة شيئًا عن المجاعة البشعة التي حدثت في مصر في نهايات العصر الفاطمي، ولولا أنها قد أوردها عدد من كبار المؤرخين ما صدقناها، فمن يصدق أن أرض النيل والخيرات يأكل أهلها الكلاب ولحوم البشر؟ فالمقريزي على سبيل المثال يسرد في كتابه «اتعاظ الحنفاء» من أمر هذه المجاعة أمورًا عجيبة، فيذكر أن الناس أكلوا الجيفة والميتة، وبيعت بيضة الدجاج بعشرة قراريط، وبيعت كل دار بإحدى الحارات برغيف خبز، وأكل الناس القطط والكلاب، وعمد الفاسدون إلى اصطياد المارة بالخطاطيف من فوق المنازل وأكلهم، وجاء الوزير يومًا على دابة فأكلها الناس، فأمر بهم فصُلبوا، ثم اجتمع الجياع على هؤلاء القتلى وأكلوهم، وباعت امرأة عقدًا لها يساوي ألف دينار بجوال من الدقيق، فقام الناس بنهبه منها، وأمورا عظيمة لا تكاد تُصدق لولا تعدد مصادرها. ومع ذلك نهضت أرض الكنانة مرة أخرى، وجرى فيها النيل والخير، لتصبح هذه السبع العجاف مجرد ذكرى.
وحتى المسجد الأقصى، ظل قرابة مئة عام في أيدي غزاة الحملات الصليبية لا يرفع فيه الأذان، وارتكبت عنده أبشع المجازر، وقُتل سبعون ألفا من أهل بيت المقدس، حتى ذكر مؤرخوهم، أن رُكب خيول القوات الصليبية غاصت في الدماء، ومن عثروا عليه مختبئا قادوه للذبح كالشِّياه. ومع ذلك جمع الله شمل الأمة وحررها صلاح الدين الأيوبي.
وليس حال الدول في العصر الحديث ببعيد، فكم من شعب ولد من جديد من بعد موات، فبعد استسلام ألمانيا لقوات الحلفاء، كانت أكثر من 90% من المباني قد تم تدميرها، واقتيد الملايين من الرجال إلى معسكرات الحلفاء، ولم يبق سوى الشيوخ والنساء والأطفال، وعلى أكتافهم بنيت ألمانيا الجديدة، وفي ظرف 30 عامًا حازت المركز الثالث في معدل التنمية على مستوى العالم، والمركز الثاني في نسبة الصادرات، والأمر نفسه يقال بالنسبة لليابان التي لا تزال تعاني من آثار قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، وآثار تدميرية هائلة في البنى التحتية، ومع ذلك حققت معجزة اقتصادية في وقت قياسي.
إنها ليست دعوة للخمول والإغراق في الأمنيات وغزْل الأحلام، بل هي دعوة للعمل والكد، لتغيير الأوضاع المأساوية، ولكن في ظل تفاؤل وأمل وثقة في أن هذه الأمة ستنهض من جديد، فالأيام دول بين الناس، واليأس يقتل البشر وهم أحياء، ويُزهّدهم في كل جهد يقومون به بحجة انسداد أفق التغيير، ألا إن الأمة كما وصلت إلى هذا الحضيض سوف تعود مرة أخرى إلى القمة، فشيء من الأمل يرحمكم الله، ولنخفف من حدة الخطابات المتشائمة والنظرة القاتمة، ونربي في الناس الأمل والرغبة في العمل معًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية




- انشر الخبر -