اللطفي الخفي .. بقلم أ.عبدالله الأسطل


تم النشر 13 أكتوبر 2018


عدد المشاهدات: 1671

أضيف بواسطة : أ.محمد سالم


(وأحسن حالةِ الإنسان إحسانُ .. وأكملُ وصفه حاءٌ وباءُ)

أذكُر أني في احدى السنواتِ التي اعتكفتها، جاء إلينا شيخٌ أنيقُ الروحِ وجميلُ الصوت، صوتهُ ذو طربٍ عاطر يسرقُكَ من وعثاءِ الحياة إلى خمائلِ السماء، تملأ وجهه الجروح الكبيرة والابتسامة الجميلة وبعض الأنامل المبتورة وتلويحات السلام اللطيفة، تعجبتُ من بعضِ الناس الذين لم يتوقفوا عن النظر إليه هُنيهةً يزيدوا من اِحراجه، بعد أن انتهينا من صلاة التراويح أتى لمجلس المُعتكفين، جالسني لدقائق -وقبل أن يُجالسني- حملت في يدي دفترًا كي أُطيل النظر به ولأُشغل نفسي معه عن بعض الأدعية التي أتحفنا بها -فحياتُنا سقف محمول بأكُف الضارعين- دون النظر لوجهه كي لا أقتحم عتبة مشاعره.. فمن لطائف السُنة النبوية، ما قاله سيدّي إمامُ اللطف صلى الله عليه وسلم: (لا تديموا النظر إلى المجذومين)! هذه الإشارة العظيمة التي تقول لك: حُرمة المشاعر كُحرمة البيوت!
يُحدثني صديقي البعيد بجسده القريب بروحه:

كان لي جَدٌّ لطيفُ التّعامل.. كلُّ ذُريّته بنات، وكانوا في زمنٍ ماضٍ لا يملكون مِن مُقوماتِ الحياة إلا رحىً واحدة لطحن الحبُوب -وقلوب كثيرة لطحن الآلام-  وقربة واحدة لسقي الماء! لم يكُن لطيفًا فحسب، بل كانَ خفيّ اللُطف لا يُشعرُ مَن أمامَه بهذا، وهذه مرتبة عالية جدًا من اللباقة ولا يُلقَاها إلا ذو قلبٍ طفولي عظيم وروحٍ شفافة مُحلقة!
ومِن ذلك اللطف الخفي أن احدى بناتهِ كسرت الرحى الوحيدة التي يملكونها فأتت تَجرُّ أقدامَها خجِلةً مُترقبة، فقالت لهُ الخبر، فابتسم وقال: (أخيرًا كُسرت! إنها رحى قديمة وقد كُنتُ أنوي شراء واحدة جديدة، لكني لم أستطع لوجود هذه، الآن أشتريها بإطمئنان)!
مواقف اللُطف الخفي والخُلق المهجور جدًا، والله إنها مِن لذائذ الحياة، تُشعرني أن في الدُنيا جمالًا آخر لم يرَهُ الناس، وأن أرواحًا حولنا تنطوي إلى بساتين أنيقة يفوح من أريجِها في المواقف دون ضجيج!
من يتلطفُ بك ظاهره كثير، لكن أينَ مَن يوُمضُ لُطفُه صامتًا سريعًا مُختبئًا دونَ أن يُشعرك بهذا!
من يُغيرُ أمرًا اعتادَه؛ لأنك تكرهُهُ، من يكسي ألفاظه بألفاظ تُحبها أنت وببعض كلماتِ لهجتِك فتراه يُرددها دون أن يُخبرك: (ها أنذَا أحبك وأحُب كلماتك)، من يعشقُ نشيدًا يُردده في ليله، لأنك فقط تُحبه، بل من يُحب طعامًا لم يكُن يُحبه، فأحبه وشاركك مذاقه، دون أن يُشعرك أنه لا يُحبه؛ فأحبه لأجلك، من يقطع المسافات ليُصلي في مسجدٍ آخر، لأنك تُحبُ أن تُصلي فيه.. ففضل أن تُلامس جبهته مكان جبتهك؛ يا إله المشهد! من يفعل هذا بالخفاء لهو القليل في الأرواح والكثير في المقالات!
ستراهُ في سيدّي الجميل صانِع اللطف صلى الله عليه وسلم عندما أتاه رجل وقال:
(مُر لِي من مَالِ اللهِ الذي عِندَك)!، فلم يكتفي بإعطائه فقط، بل ابتسم وتلطف له قبل أن يُعطيه، ففي نهاية الحديث: (فالتفت إليه.. فضحك ثُم أمر لهُ بعطاء)!
ستراهُ رُبما في حبيبٍ اعتذرت عن موعده خجلًا مُنكسرًا لانشغالك –غيرَ مرة-، فلا يكتفي بترك العَتَب، بل يوُحي إليك أنك إن لم تعتذر كان هو سيعتذرُ؛ لأن طارئًا ما داهمهُ أيضًا، فيُريحك من وخز الضمير بل ولا يُشعرك بإحسانهِ ولطفه، ستراه في صديقٍ تكلمت أمامه -ذات ألم- عن ثُقل دَيْنك، فيذهب دون أن يُشعرك ليسده عنك.. بل يتكلم أمامك عن سوء أحواله؛ كي لا يأتي في خلدك هُنيهةً أنهُ هو من سد دَيْنك!
ستراهُ في رجل كُلما رأيته -وأنت الذي غبت كثيرًا وقبل أن تتكلم عن أعذار غيابك حين تتلكأ في الحديث معه- يبادرك هو فيقول لطفه الخفي: حسبي أني شُغلت عنك حبيبي، فيعتذر هوَ بدلًا عنك!
ستراه في رجل عندما يقول لك: كيف حالك بنبرة مُلحة تهتم بتفاصيل تفاصيُلك! ستجيب (الحمدلله)، تُخبئها بين قوسين كي لا تتسرب منها أوجاعك، فلا يقبل أحرفك الذائبة على سطر الكلام، بل هو من يُدثرك ويهمس بك: الحمدلله دائمًا.. كيفك أنت ويبدأ يُعانقك ليُنسيك ما كُنت به!
ستراهُ في شابٍ يضع طعام القطط  في مظروف مُغلق كي لا يتسخ وتُصيبه الرمال!
ستجدهُ في أحد أصحاب المصانع عندما أراد أن يُقيل أحد الموظفين فقال له بلُطف جمّ: (لا أعرف يا بني كيف يُمكننا أن نعمل من دونك ولكننا سنحاول ذلك ابتداءً من يوم الإثنين المُقبل)!
سترى هذا اللُطف في أم تبقى مُستيقظة لتضع لك الطعام الساخِن، وإن سألتها لِمَ أنتِ مُستيقظة إلى الآن؟! فتُجيبك: شُغلت في أعباءِ البيت، وهي التي بقيت مُستيقظة لأجلك!
ستراهُ في صديقٍ يزهد في إضافتك إلى مجموعة الرسائل، بل يُخصصك لوحدك.. لأنك أنت الذي تُجاوره بالقلب قبل أن تُجاوره بالجسد!
(ما كان لهُم من القلب حاءُ وباء.. وما كان لك فقد جاوز الألفا)
ستراهُ في صديقٍ يفهم ما تُريده دون أن تبوح به، فيتعمدَ أن يُقدمهُ لك في مكانٍ كي لا يراك ويرى ماء وجهك الخَجِل.. لأنه يُحبك وقد تعود أن يراك في عِزٍ وشموخ!

ستراهُ في طبيبٍ غير مُسلم، ففي محاولة لتبسيط الموت على قلب أم، أنجبت امرأة في لندن طفلتها فاقدة للحياة للأسف.. فكتبوا لها على بطاقة تحمل بصمة يد الطفلة وتاريخ الحدث، جملة (Born sleeping)، أي: (ولدت نائمة)!، تلطيف الموت بالمفردات اللطيفة الخفية لن يلغي الألم حتمًا، لكنه يحوّله لذكرى أكثر من كونه فجيعة!
ستراهُ في صديقٍ يأزر صديقه على شجاعة الكلام والبوح، ليتجاوز جبال الصمت العالقة في حلقه، فتبدأ أنت برسم ألوان الود على قلبه، كمُبادرة عناق عند اللقاء ليستقيم به ضلع الهجر الأعوج، ستراهُ في رجلٍ ينظُر بقصد إلى الجهة الأخرى كي لا يزيد من إحراجِ أحد!
ستراه في رجل قد نسيّ اسمك عندما لاقيته، فلا يقول: ذكرني بك..!
بل يملؤك بالأسئلة الشاغلة عن أحوالك واهتماماتك، وكأنه يعرفك من سنين!
ستراهُ في أُم حنونة تقلّم سيقان البصل الأخضر، فتُخبرها أنت أن لو ارتاحت قليلاً وللبصل وتقليمه متسعٌ من الوقت، فتقول: (أقلّمه الآن ليأكله الغَنم أخضر طازجًا قبل أن يذبل ويصفرّ)!
ستراه في رجل كُلما أومض جواله برسالة عارية من اسم صاحبها، يرُد عليهُ برسالة لطيفة دون أن يقول: عفوًا من معي!
ستراه في رجل كُلما فتحت هاتفك الحديث أمامه.. يتراءى بنظره إلى الخلف ويبدأ يُشغل نفسه باتصال؛ كي يُشعرك أنه هو أيضًا شُغل؛ فيفتح أمامك بستان البوح!

ستراه في رجل دعوته للطعام، فإذا به يرى شعرةً رأيتها أنت قبله ليصيبك الخجل - قد غفوت عنها وكُلنا نغفو- شاءت الأقدار أن تكون أمامه في الطعام؛ فلم يرفعها، بل تظاهر أنه لم يراها حتى تناول هاتفه وقام من مجلسه وذهب إلى الشُباك يُعطيك ظهره، كي لا يُشعرك بشيء؛ إنه يُريد أن لا يراك، فيخجلك وأنت ترفعها!
ستراهُ في صديقٍ لا يُراجعك عن سر تأخُر الإنجاب حتى عندما يسألك أحدهم وهو معك؛ يُبادر هو قبلك: لم يشأ الله بعد، ويُغلق القصة؛ كي لا يمس حُرمة مشاعرك، دون أن تشعُر!
ستراه في رجل، كُنت قد ذهبت إليه في حاجةِ لك، فأعطاك مما فضل الله به عليهِ، لتتأخر أنت عن ردها في معادها، فإذا بهِ يراك في شارع كان قد قصده، حتى غيرَ وجهته كي لا يراك ويُحرج خافقك ويتلمس بعثرة عزتك!

أنا لا أتحدث عمن يُبالغ في التلطف بالمساكين والعُمال ليبدوَ عِندَ نفسه لبقًا لطيفًا مُحسنًا، ولو لم يكن يراهم دونه ما بالغَ في التلطف، فلو كانوا بعينه كسائر الناس، لعاملهم كسائر الناس دونَ مبالغة يؤول أمرُها إلى إرضاء شعور داخلي جائع للظهور!
يا الله: بحقّ الوريد الذي أنت أقرب إلينا منه، وحق الكائنات المُسالمة جمعاء، بحق الألوان المُذلهة التي تصنعها كُل مساء على وجه السماء؛ أبقي لنا غيمة اللُطف الخفي -وهو الُخلق المهجور جًدا- على كُل من أمن بك؛ ليدُهِشنا ويستبقي الإنسان الذي بداخلنا.. اللهم آمين، آمين!




- انشر الخبر -