الموتُ يُحصي زائريه يرتّب الأطفال في أكفانهم.. قطعاً من الغيم المسجّى في توابيت السماءِِ! قتلوا ابنك الصغير، قتلوه ببرودة وها هُم ساخنون كجُرح في القلب، كان سيكبُر ليصيرَ أمير أحلامك، وما ميزة أمير الأحلام إلا حصان أبيض وقلب جميل، لقد طار به الحصان.. وأنت عليك الآن أن تزرع المزيد من الورد على الشُّرفات وفي أسفلت (غزة) والقلب! عليك أن تُمسك الجُغرافيا عن قميصك وتطيرَ به نحو ياسر؛ ليعلم ياسِرُ: أننا كُلُنا أمام الموت سواسية، كُلنا أمام الورد سواسية! اغمرنا بالجميل من الصبر وعُدْ به إلى زوجِك! غفتِ المآذنُ مساءَ الجُمعةِ -بعد الانتهاء من طقوس مسيرة العودة الاسبوعية- والمذياعُ يصدحُ فيه الصحفي بين أكداس الرُكام: (استُشهِدَ الطفل ياسر أبو النجا، ابن المجاهد أمجد أبو النجا..)! استُشهِد الذي يبلُغ 13 ربيعاً، وهوّ الولد الوحيد للقائد الفلسطيني المجاهد أمجد أبو النجا -حفظه الله- والذي رُزق به بعد 9 من البنات! عُمراً بأكمله على خطّ النار.. كي يرى الحياة من مِنظار بندقيته رأيت صورته مع والده، وكأن العروق الزاحفة في ذراعيه تتوسل لمس شمسِ وجهه، تقول: خُذ يا أبي كُل شيء لمسته لأكون أقربَ إليك، مثل توت مسحوق في راحتيّ يديه ناضجة وجديدة في انتظار تذوق حلاوتها معك! أما عن صورة والدته، فقد التوى قلمي وتوقفت أناملي عندما رأيتها وهي تُلقي عليه الوادع الأخير، كأن عروق يدها قصائد يُمكن لمسها! وقبل أن تنظر إلى هذه الصور، أزل المساحيق، تجاوز البهارِج، دقق النظر؛ كي يخرُج الإنسان الذي بداخلك، فكثير هم البشر ولكن قليل هُو الإنسان! فأنتّ عِندما تذهب إلى أماكنِ مسيرة العودة، السؤال الأكثر تِردادًا لك: (في شُهدا..)؟! تستَمِع لهذا السؤال يتردد صداه على مسامعك -عشراتِ المرات- حتى أنه يكاد يخدِش جدار قلبِك فيهدمَه! استفهام يبحث عن تفاصيل الإخلاص.. وإن كان الجواب: نعم! تجد حباتٍ من الدمعات توزع على ضحكات مبتورة، وإن سألت عنها، تجد الجواب: (لا؛ الغاز دخل عيني)! خلف صوتِك المُهتزِ وأنت تُعبِر كلمة شائكة في حلقِك (الله يتقبلو..)! مُرمقة مع آه الصامتْة! لكنها في حضرة الغَزيّ؛ تُرافقها أمنية، لأن في ظنهم أن الشهيد كالثمرة إن نَضجت قُطفت؛ بينما هم لم ينضجوا بَعد! راودني تساؤل مُلِح: من أولُ من استخدم كلمة (...إلخ)؟!؛ حتى خُيِّل لي أنه رجلٌ كتب كل شيء ولم يَصل! بينما حقيقةَ أول من استخدم (لا للمُستحيل)؛ رجُل غَزيّ فَعل كُل شيء كي يصل؛ ليصل بشهداءِ وجرحى! لأن يقينهم الراسخ أن يوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ..! حتى غيماتُنا لم تعُد حُبلى، فَشهداء مسيرة العودةِ -تقبلهُم الله في آفانينَ رضوانه- قد استنفذوا مطر هذا العالم بأفعالهم! فلقد عاش الشهيد (ياسر) تحت الحصار، وقد شهد ثلاثة حروبٍ على غزة، ليستشهد في الحرب الأخيرة عمه (باسل) ومن قبل عمه الآخر (هيثم)، وقد حاول الاحتلال اغتيال والده المجاهد -غيرّ مرة-، وتشرد مع عائلته المُجاهدة -نتيجة قصف الاحتلال لمنزلهم-، واليوم انتهت قصة (ياسر) برصاصة من جندي اسرائيلي؛ شتتت رأسه! يا رب صب على اليهود ألوان الأذى .. ولتخْلَعِ الأطرْافَ والأظفْارا والله إن القلب ليتفطر وهو يرى دموع أم ياسر وهي تتحدر فوق الخدود! فبينما يتقاطر الماء من أطراف ثيابنا المعلقةٍ على حبل الغسيل، وحده ثوب (ياسر) بقي في الخِزانة؛ تتقاطر من أكمامه دموع أُمه! يا غزة قد يبس الكلامُ .. في غزة تنكسِرُ الخواطرُ والمرايا ! (أمانة خليه يقوم يروح لاخواته)! كان هذا نداء بنكهة آهات الألم من أم ياسر عندما استقبلت ابنها الشهيد في المستشفى؛ فقد كان المصور قد التقط صوراً عديدة لها، وكأنها خبأت الحُزن في عدسةِ الكاميرا.. دون انتباه! بينما والده قد شُغل بالدُعاء له مُسترجعًا شريط الذكريات الذي قد بدأ مِن: (بابا)! لستُ أنساك وقد أغريتني.. بفمٍ عذب المناداة رقيق! وكأن بوالد ياسِر يبوح: صارت ذاكرتي ممتلئةَ لدرجة أنني كلما أردت أن أضيف لها جديدًا لا بد من حذف أضعافها من القديم! والموجعُ أن البتر اقترب كثيراً للأشياء الحبيبة، وأخذ مني ياسر.. لم يأخذه شيئاً فشيئاً بل أخذه كاملاً! فلقد عاش والده فقْدَ شقيقيه وأحبابِه وأصدقائه الكُثر، كالشهيد ياسر الغلبان -والذي أطلق على اسم ابنه ياسر تيمُناً به-، فقد كانت علاقته معه علاقة قوية حد الهجر! بيني وبينكَ في المَودّةِ نِسبَة .. مكتومَة عَن سرّ هَذا العالَمِ نحن اللذّانِ تعارفت أرواحُنا .. مِن قَبلِ خَلق الله طينة آدمِ ! لا يموت الإنسان دفعة واحدة.. فكلّما رحل حبيب عنا قضم قضمةَ من الروح حتى يبقى آخرهم على قطعةِ صغيرة منها، ويوم أن يقرّر الرحيل تنطفئ الحياة للأبد..! فبين الآهات المحبوسة في الصورة، والأدعية الصاعدة في الصوتِ الهامسِ في أٌذن السحاب؛ يتولد الحُزن الغزّي! لا يَسْلَمْ الشرَف الرّفيع مِن الأذْى .. إنْ لمْ يَهبّ لِصْونِهِ الأحرار ! في غزة فقط؛ الشجاعة تكتمل، في غزة فقط؛ يعادُ كتابة الأسطر بالمعاني البطولية! نضع في أول السطر؛ البطولة والشهادة! فإن الفاصلة تعني بالمعنى الغزّي: عودة جريح أو وصية شهيدة عجلى أو ربما خجلى؛ لإمرأةِ لم يتمَ زواجها، كالشهيدة رزان النجار! ورقات مصحف تتلوها الأمهات بدعوات لأبنائهن، عندما عرجنَ على السلك الزائل! نظرات أب؛ يرتبك بين فرحته بابنه الشهيد، وبين انفطار قلبه، وبين تبعثر خطواته في الجنازة.. -حيث في قانون غزة- لا يجوز لآباءِ الشهداء أن يلتقطوا عُكازة؛ كي لا يشعُر العدو بإنهيارهم! فبينما نحنُ ننام؛ تقوم اُم الشهيد برشوة بوّاب القلب ليطرد الآخرين ويُبقي صورة ابنها لتظلَ تسبح في خيالاتها السادرة! كي تعوزنا الطمأنينة -حينها- : كأم تستيقظ كل يوم في الثالثة صباحاً لتتأكدَ أن ابنها الذي استشهِدَ لم يغادر الصورة العائلية! فإلى كٌل أعمى لك هذا النور كله! إلى كُل أصمّ لك دعواتُ والد ياسر كلها.. إلى كُل أبكم لك كل الأغاني المهداةُ له في جنازته! ولك الأبقى: لك هذا الرضا الأبدي.. لك هذا الصبر الأزلي! وأخيرًا: كلّما جُرح الوطن.. ضمّدوه بشهيد؛ انتظر ساعات قليلة لتسمع من هو دواء الوطن..!