الكنيسة الأرثوذكسية في القدس


تم النشر 05 مايو 2018


عدد المشاهدات: 1768

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


تخلص دراسة لمؤسسة القدس الدولية، ومقرها العاصمة اللبنانية بيروت، إلى أن قضية الكنيسة الأرثوذكسية بالقدس المحتلة واحدة من القضايا القومية الساخنة، ومن غير المتوقع حلها بالظروف السياسية السائدة، خاصة في ظل أنباء بين الحين والآخر عن بيع الأوقاف المسيحية بالأراضي الفلسطينية.

ويتبع أكثر من 51% من مسيحيّي فلسطين كنيسة الروم الأرثوذكس التي تأسست بالقدس عام 52 بعد الميلاد، والتي يرأسها حاليّا رجال دين يونان، رغم أن أكثر من 90% من رعاياها من العرب.

وتتضمن الدراسة المكونة من 16 صفحة معلومات أبرز المعلومات الأساسية عن الكنيسة الأرثوذكسية وأصولها ومحاولات تعريبها وأملاكها والتسريبات التي تتعرض لها أوقافها، وفيما يلي نعرض لأهم ما ورد بدراسة الباحث محمد أبو طربوش ونشرت طبعتها الأولى عام 2017.

الدراسة: الأملاك الأرثوذكسية في القدس
الباحث: محمد أبو طربوش
الناشر: مؤسسة القدس الدولية، بيروت، لبنان
الطبعة: الأولى 2017
الصفحات: 16

 

وجود متجذر
الوجود المسيحي بالقدس متجذر في عمق التاريخ، ففي بيت لحم القريبة من القدس كانت ولادة عيسى بن مريم عليه السلام، وفي المدينة المقدسة كانت انطلاقة الدين المسيحي، وفي أرجائها شهد العالم "الاحتكاك" التاريخي مع اليهود وتآمرهم على المسيح عليه السلام، ثم اضطهادهم لأتباعه، مما جعل من المسيحية عقيدة سرية إلى أن أُعلنت دينا عاما للإمبراطورية الرومانية الواسعة بعهد الإمبراطور قسطنطين.

وبالفعل زارت أم الإمبراطور الملكة هيلانة القدس عام 320 وشيدت كنيسة القيامة، بينما أنشأ قسطنطين مدينة القسطنطينية ورسم لهم بطريركا مساويا لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية بالمرتبة، وقد عرف أتباع هذه الكنيسة بالروم الأرثوذكس، ويبدو أن أول من أطلق عليهم هذه التسمية هم المؤرخون العرب.

بعد انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية في القرن الـ 11 الميلادي، صارت الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين تتبع بطريركية القسطنطينية، لكنها حافظت على صلاتها بروما، ثم أخذت الكنائس تستقل شيئا فشيئا لأسباب دينية أو سياسية أو قومية.

وقد توزع الأرثوذكس إلى عدة كنائس، هي: الكنيسة اليونانية البيزنطية، الأرمنية، السريانية، القبطية في مصر، الحبشية في الحبشة.، وجميع هذه الكنائس ممثلة الآن في القدس وكنيسة القيامة خصوصا.

ويتبع معظم مسيحيي فلسطين الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية التي يعرف أتباعها باسم الروم الأرثوذكس، ويتبعها معظم مسيحيي فلسطين، وهي مستقلة تنتمي للكنائس البيزنطية التي تستعمل اللغة اليونانية، وتعود صيغة الصلوات فيها إلى تقاليد بيزنطية، حيث كانت تعرف في الماضي باسم الكنيسة الملكية، وكان أتباعها من اليونانوالعرب المتأثرين بالحضارة اليونانية، وقد استقرت اللغة العربية فيها مع الفتح العربي لأن عدداً من بطاركة القدس وأساقفة الأبرشيات في فلسطين كانوا من السوريين أو الفلسطينيين وكانوا يتقنون العربية واليونانية.

"
كان معظم الرهبان والأساقفة عربا وكان آخرهم البطريرك عطا الله المعروف باسم دوروتاوس الثاني
"
 

يونانية الآن
رئاسة الكنيسة من قبل رجل دين يوناني لم تكن هي الأصل، فقد بدأت سيطرة رجال الدين اليونان على رئاسة بطريركية القدس عبر جمعيتهم القبر المقدس عام 1534 في عهد السلطان العثماني سليم الأول.

أما في الحقبة الممتدة من عصر المماليك إلى تاريخ سيطرة جمعية أو أخوية القبر المقدس على الأكليروس، فقد كان معظم الرهبان والأساقفة عربا وكان آخرهم البطريرك عطا الله المعروف باسم دوروتاوس الثاني (1505-1534).

لكن الرهبان اليونان كانوا يتوافدون على القدس بكثرة أيام الدولة العثمانية، وقد كانت اليونان جزءا من هذه الدولة في ذلك الحين، وكان مركز البطريركية الأرثوذكسية بالقسطنطينية، وبطاركتها من اليونان، ورويدا رويدا شكلوا أغلبية الرهبان والأساقفة في القدس وتولوا مقاليد الحكم والسيطرة على البطريركية، من خلال جمعية القبر المقدس.

"
كان مفتي القدس  الحاج أمين الحسيني يتزعم الحركة الوطنية الفلسطينية ويقود المظاهرات المطالبة بحقوق العرب الأرثوذكس
"
 

معركة تعريب
أبناء الكنيسة العرب لم يدخروا جهدا في محاولاتهم لتعريب الكنيسة، فقد أجبروا حكومة الاحتلال البريطاني على تشكيل لجنة تحقيق لهذه الغاية، فاعترفت اللجنة في تقريرها بحقوق العرب ومطالبهم، لكن تحيز الحكومة البريطانية ضد كل ما هو عربي عطل التنفيذ.

وبعد النكبة بات الإشراف على الضفة الغربية والقدس منوطا بالحكومة الأردنية، فوضعت عام 1957 قانونا باسم "قانون البطريركية الأرثوذكسية" ينص على إقامة مجلس مختلط من رجال الدين وممثلي الطائفة من العلمانيين، للإشراف على كل ممتلكات وأموال الكنيسة، والمعهد التعليمي لرجال الدين، وكان هناك تمثيل للعلمانيين العرب في هذا المجلس، لكن عادت الحكومة ووضعت قانونا جديدا عام 1958 سيطرت بموجبه جمعية القرب المقدس في شكل كامل.

وإثر نكسة 1967 ازداد الأمر سوءا، حيث لا تزال ترى دولة الاحتلال أن من مصلحتها الإبقاء على السيطرة اليونانية في إطار مشروع التهويد المستمر.

ويأخذ المسيحيون العرب اليوم على السلطة الفلسطينية حيادها السلبي، في حين كان مفتي القدس الحاج أمين الحسيني يتزعم الحركة الوطنية الفلسطينية ويقود المظاهرات المطالبة بحقوق العرب الأرثوذكس.

"
وفقا لسجلات الكنيسة فإنها تمتلك نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة المقدسة
"
 

الأوقاف الأرثوذكسية
تمتلك الكنيسة الأرثوذكسية ربع القدس القدمية البالغة قرابة كيلومتر مربع، كما تمتلك أراضي شاسعة، وأديرة، ومقابر، خارج البلدة القديمة في القدس، فضلا عن عقارات في مدن فلسطينية كبرى، لكن قسما لا بأس به من هذه الأملاك سربت إلى جهات إسرائيلية عن طريق البيع أو الإيجار طويل الأمد تصل إلى 99 سنة.

أما كيف أصبحت هذه الأملاك للكنيسة؟ فيقول بعض المؤرخين إنها كانت ممتلكات أوقفها وقفا العرب المسيحيون في فلسطين حتى يستفاد منها لمصلحة الكنيسة خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية خوفا من مصادرة هذه الأراضي واعتبارها أراضي دولة.

ووفقا لسجلات الكنيسة فإنها تمتلك نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة، أي 35% من المساحة العامة للقدس بشطريها.

"
تمتلك البطريركية الأرثوذكسية أكبر الكنائس بفلسطين وربع البلدة القديمة من القدس وأراضي شاسعة وأديرة ومقابر خارجها
"
 

تسريب مستمر
ويتهم المسيحيون العرب رئاسة البطريركية صراحة بأنها لم تكن أمينة على أملاك الكنيسة حيث تم اكتشاف عمليات بيع وتأجير أراض كنسية فلسطينية لمدة طويلة إلى السلطات الإسرائيلية منذ قيامها
ويطالبون السلطة الفلسطينية والأردنية بتعديل القانون الخاص بكنيستهم، بما يتيح رفع الهيمنة اليونانية عنه، باعتبار الأردن سلطة الوصاية قانونا على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية.

وتمتلك البطريركية الأرثوذكسية أكبر الكنائس بفلسطين وربع البلدة القديمة من القدس وأراضي شاسعة وأديرة ومقابر خارجها، فضلا عن عقارات في مدن فلسطينية كبرى مثل بيت لحم وبيت جالا والناصرة، إلا أن هذه الأوقاف استهدفت من قبل هيئات وسلطات وجماعات صهيونية منذ أواخر الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص منذ حرب 1948 فبيع قسم كبير منها أو جرى تأجيره لمدد طويلة معظمها يصل إل 99 سنة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، باعت الكنيسة الأرثوذكسية مقبرتها، وأراضي دير مار سابا في بيت لحم، وأراضي جبل أبو غنيم في القدس الذي حول إلى مستوطنة.

كما باعت أو أجرت لأجل طويل أكبر مأوى لحجاج القدس من "المسكوب" أو أهل موسكو، وعليه يقوم اليوم في البلدة من القدس معتقل المسكوبية سيئ الذكر.

"
تداعيات صفقات البطريرك المخلوع إيرينيوس استمرت حتى انكشفت ملابسات خطيرة
"
 

إيرينيوس الأول
واجه البطريرك إيرينيوس الأول بداية انتخابه مشكلة عدم اعتراف سلطات الاحتلال به ومنعه من التصرف بأملاك الوقف الأرثوذكسي، فوجد في التعاون مع الاحتلال سبيلا لتخفيف الضغط عليه، ولو كان ذلك على حساب أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية وأملاكها التاريخية في القدس.

لم يمض وقت على انتخابه (من عام 2001 إلى 2005) حتى كشفت وثائق تفيد بتسريب أملاك للكنيسة إلى الاحتلال فيما عرف بـ "صفقة باب الخليل".

وبعد عزل إيرينيوس الأول انتخب كيريوس ثيوفيلوس الثالث بطريركا للمدينة عام 2005، وقدم وعودا بإبطال صفقة تسريب الأملاك للاحتلال، لكن تداعيات صفقات المخلوع إيرينيوس ظلت مستمرة حيث انكشفت ملابسات خطيرة لهذه الصفقة، بعد أن اتضح أن البطريرك منح المسؤول المالي في حينه نيكولاس بابادميس توكيلا بالتصرف بأملاك الكنيسة كافة.

وبعد الكشف عن الصفقة كان بابادميس قد توارى عن الأنظار، ولم تتكمن أي جهة من معرفة أو حصر الصفقات والعقود التي أبرمها خلال الفترة التي كان يحمل فيها هذا التفويض، لكن كانت إحدى هذه الصفقات الصفقة الطالبي التي عرفت في وسائل الإعلام بـ "صفقة دير مار إلياس".

واستمر مسلسل التسريب السري للعقارات، فكشفت في 27 يونيو/حزيران 2017 النقاب عن صفقة تم بموجبها بيع أراض تابعة للكنيسة الأرثوذكسية في الشطر الشرقي من القدس وتشمل أراضي الطالبية، ويقام عليها اليوم 1500 عقار يجري استئجارها بموجب عقود تنتهي عام 2052 وتبلغ مساحة الأراضي المسربة من خلال الصفقة نحو 500 دونم.

وتشير التقديرات إلى أن ملكية الكنيسة بيعت في حينه مقابل 38 مليون شيكل (نحو 8.10 ملايين دولار) يضاف إليها 76 مليون شيكل (22 مليون دولار) دفعته عام 2011 شركة أخرى يشرف عليها محام إسرائيلي.

"
أدى التفريط المستمر بأوقاف الكنيسة وتسريب أملاكها للاحتلال لتوسع الفجوة بين الرعية الأرثوذكسية وبين الأكليروس اليوناني القائم على شؤون البطريركية
"
 

كما أشارت مصادر إلى أن البطريرك باع قبل عدة أشهر ألف دونم من أراضي البطريركية على ضفاف شاطئ بحيرة طبريا تبلغ مساحتها 11 دونما.

من جهتها تقول بطريركية الروم الأرثوذكس إنها "لم تقم ببيع أراض أو عقارات كانت بحوزتها أو تحت تصرفها في الأراضي المحتلة، إنما يدور الحديث عن 528 دونما أرضا كانت تمتلكها البطريركية وتم الاستحواذ عليها عام 1951 بعد قيام إسرائيل.

خلاصة
أدى التفريط المستمر في أوقاف الكنيسة وتسريب أملاكها للاحتلال إلى توسع الفجوة بين الرعية الأرثوذكسية وبين الأكليروس اليوناني القائم على شؤون البطريركية، ومع الوقتُ اشتدت حركةَ المطالبة بتعريب الكنيسة والحفاظ على أوقافها من قبل الأرثوذكس العرب الذين وجهوا أنظار السلطات والشعب العربي إلى الأخطار الكبيرة الناجمة عن فقدان العرب السيطرة على هذه الأوقاف.

ويتطلب الحفاظ على الأملاك المسيحية في القدس وفلسطين جهودا مشتركة بين الحكومة الأردنية والطوائف المسيحية في الأردن وفلسطين، حتى لا يخلو الجو لرجال الدين المسيحيين من غير العرب لبيع أو تأجير أملاك الوقف لليهود.

المصدر : الجزيرة




- انشر الخبر -