تطورات المقاطعة في أوروبا وفرصها وتحدياتها حسام شاكر


تم النشر 04 فبراير 2017


عدد المشاهدات: 1460

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


تطورت في البيئات الأوروبية ظاهرة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات عبر تشكيلات وحملات ومبادرات وجهود تضغط على مصالح الاحتلال الإسرائيلي وتدفع باتجاه عزله في مجالات شتى.

فبعد مبادرات وتجارب سابقة في بلدان أوروبية عبر أعوام متعاقبة، تنادت إلى مقاطعة المنتجات والخدمات الإسرائيلية أو التي تعود لشركات قيل إنها تقدم دعما ما للجانب الإسرائيلي، طرأ نموّ نوعي على المفهوم ومجالاته وتطبيقاته بدءًا من عام 2005، من فكرة المقاطعة بصفة مجرّدة إلى الثلاثية التي تستجمع أيضا السعي لنزع الاستثمارات وفرض العقوبات، كما وردت في "نداء المقاطعة الفلسطيني" وغيره.

مع هذا النمو في المفهوم، اتّسع مجال العمل ونطاق التحرّك، فلم يعد الأمر مقتصرا على نداءات للامتناع عن الشراء، تخاطب عامة الجمهور أو الفئات الفرعية المهتمة بقضية فلسطين فقط، بل أصبحت تخاطب أوساطا وتجمّعات وهياكل مؤسسية في مستويات متعددة، مع السعي إلى تكييف السلوك الاستهلاكي بما يتماشى مع المسؤولية الأخلاقية نحو حالة احتلال جائر وبما ينمِّي الوعي المدني بعدالة قضية الشعب الفلسطيني. وقد نشأت في غضون ذلك أطر مختصة بالمقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، بعد أن كانت المساعي والجهود ذات الصلة تأتي غالباً ضمن الاهتمامات العامّة المتعددة للمؤسسات والتجمّعات.

استلهام التجارب وتطوير الآليات

لقد أخذت جهود المقاطعة في المجتمعات الأوروبية تستلهم في تطوّرها تجارب عدة، لا سيما منها تجربة الضغط على نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا، مستفيدة أيضا من نموّ تجارب المجتمع المدني وظهور حركات وتشكيلات تعتمد وسائل عمل ضاغطة في مجالات عدة.

"اتّسع مجال العمل ونطاق التحرّك، فلم يعد الأمر مقتصرا على نداءات للامتناع عن الشراء، تخاطب عامة الجمهور أو الفئات الفرعية المهتمة بقضية فلسطين فقط، بل أصبحت تخاطب أوساطا وتجمّعات وهياكل مؤسسية في مستويات متعددة"
وبدءا من عام 2005 تطوّرت تجارب المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات "بي دي أس"، أو "منع" اختصارا، وتمدّدت بشكل متضافر في العالمين الواقعي والافتراضي، معتمدة على آليات التشبيك المدني وتواصل القواعد الجماهيرية في المدن والبلدات، كما تفاعلت في قطاعات وشرائح متعددة مثل اتحادات الطلبة والنقابات والجامعات والجمعيات العمومية للجمعيات التعاونية الاستهلاكية والصناديق الاستثمارية والبلديات. وتمكنت الظاهرة من إحراز نجاحات واعدة خاصة في سحب استثمارات صناديق تقاعد وتأمين في دول إسكندنافية وهولندا من الجانب الإسرائيلي، وفي مجال المقاطعة الأكاديمية التي تركزت في بريطانيا، وقرارات مجالس بلدية في أيرلندا بمقاطعة نظام الاحتلال.

الجديد في الظاهرة أنّ التفاعلات أخذت تنبثق من المجتمع المدني بروح المبادرة وبصفة لا مركزية غالباً. وبدا أيضاً أنها تتحوّل إلى برامج عمل مفتوحة ومُلهِمة يمكن التفاعل معها أو تبنِّيها أو محاكاتها من جانب المؤسسات والتجمعات والأفراد بمبادرة ذاتية، فسجّلت من هذا الوجه توسّعاً نسبياً في عدد من البيئات الأوروبية رغم محاولات الإعاقة التي تعترضها، بينما لم تنجح في إيجاد موطئ قدم لها في بيئات أوروبية أخرى.

ونجحت الظاهرة في التفاعل عبر مواسم سنوية للتحرّكات من قبيل "أسبوع الأربتهايد الإسرائيلي"، الذي تقام فعالياته في عواصم ومدن أوروبية وعالمية بصفة متقاربة في النصف الثاني من فبراير/شباط والنصف الأول من مارس/آذار.

ومع هذا النمو والانتشار، تعالت تعبيرات القلق الرسمي الإسرائيلي الجارف من الظاهرة، فأعلنت حكومة الاحتلال مرارا عزمها على كبحها وملاحقتها، متحدثة عن استراتيجيات وخطط وضعتها لهذا الغرض وتحركات ضاغطة باشرتها في هذا الشأن. وقد اتضحت بعض الانعكاسات المترتبة على هذه التوجهات الإسرائيلية عبر قرارات وإجراءات وحملات مضادة متعددة شهدتها دول أوروبية، بينما أخذت الأوساط الإسرائيلية الرسمية -وعلى رأسها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ذاته- تتحدث عن "إنجازات" تم إحرازها في تحجيم الظاهرة، وهو ما قوبل بمواقف متشككة في درجة مصداقيته.

الظاهرة في تجلياتها المتعددة

تتأثر ظاهرة المقاطعة بطبيعة الثقافة السياسية في البلد الأوروبي المعني، وبمنسوب تطوّر بيئة العمل المدني فيه، وبالمنحى التضامني مع فلسطين وعمقه، وبتأثير الجهود المناوئة للحقوق الفلسطينية إجمالا والمقاطعة خصوصا.

وفي الحالات التي لا تتوفر فيها بيئة حاضنة للظاهرة ضمن أطر المجتمع المدني والأوساط الثقافية والإدارات، قد تغلب على تحركات المقاطعة السمة القاعدية، فتتركّز في الميدان وعبر الشبكات الاجتماعية، كأن تميل إلى تكثيف فعاليات التوعية بين جمهور المستهلكين أو نشاطات ملاحقة منتجات مرتبطة بالاحتلال، كما يجري في فرنسا مثلاً.

أما في بريطانيا فإنّ تفاعلات المقاطعة بدت ملموسة في أطر نقابية ومؤسسات أكاديمية وأوساط ثقافية وفنية. ويمضي المنحى نحو تمدّد الظاهرة في البيئة الأيرلندية التي تتّسم بمنسوب تعاطف أعلى مع قضية فلسطين لاعتبارات تتعلق بالتجربة التاريخية الأيرلندية وروحها النضالية، فجاءت قرارات بلديات أيرلندية بالالتزام بمقاطعة الاحتلال منسجمة مع ذلك. أما في بعض الدول الإسكندنافية وهولندا فإنّ حيوية المجتمع المدني واتساع قاعدة مشاركة المواطنين في بيئة العمل المدني علاوة على ثقافة المعايير والأخلاقيات في السلوك الاقتصادي والاستثماري، كان لها تأثيرها في إقدام بعض صناديق التقاعد والتأمين على نزع استثماراتها من مؤسسات إسرائيلية. 

"تتأثر ظاهرة المقاطعة بطبيعة الثقافة السياسية في البلد الأوروبي المعني، وبمنسوب تطوّر بيئة العمل المدني فيه، وبالمنحى التضامني مع فلسطين وعمقه، وبتأثير الجهود المناوئة للحقوق الفلسطينية إجمالا والمقاطعة خصوصا"
وتمنح هذه الخصوصيات والتمايزات انطباعا عن المداخل والفرص المحتملة التي تحوزها جهود المقاطعة في التمدّد عبر البيئات الأوروبية، علاوة على تقدير الصعوبات التي ستواجهها والتحديات المحتملة في بعض البيئات. ومن شأن إدراك ذلك أن يعين أيضاً على صياغة التقديرات الاستشرافية لمآلات الظاهرة.

فرص التمدد وآفاقه
تحوز جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات فرصا للاستمرار والتمدد، تترتب أساسا على ما تحقق لها من مكتسبات في بعض البيئات، لا سيما مع بزوغ اسمها "بي دي أس" عالمياً بصفتها حالة نجاح مهمة لإنصاف الحقوق والعدالة في فلسطين.

ورغم الحملات المناوئة ومحاولات التشهير التي تعترضها، فإنّ الظاهرة تبقى مؤهلة لمزيد من التمدد والانتشار في أوساط عدة عبر أوروبا والعالم، مستفيدة من نمو ثقافة العمل المدني وتطور خبرات التفاعل الجماهيري وخيارات التشبيك بين القطاعات وعبر البيئات.

ثم إنّ الظاهرة قادرة على التمدد والانتشار استناداً إلى نماذج العمل وتطبيقاتها المفتوحة التي تتيح للمتفاعلين من الأوساط والشرائح استلهامها وتقمّصها والعمل بمقتضاها. فهي جهود قابلة للتعاظم بقوة الفحوى والمضامين واستنساخ الآليات حتى دون اشتراط تشكيل مؤسسات وتجمعات مختصة بذلك، إذ يتاح للتجمعات النقابية واتحادات الطلابية والمجالس البلدية والجمعيات العمومية في صناديق التأمين وإدارة الأصول وجمعيات المستهلكين أن تأخذ بتوجهات المقاطعة ونزع الاستثمارات وتعتمدها بوسائل شتى.

على أنّ الفرصة الجوهرية يتيحها تنامي الوعي بواقع الاحتلال عبر العالم وتضاؤل قدراته على كسب العقول والقلوب في المجتمعات الأوروبية، وهو ما يغذي استجابات مدنية وجماهيرية في اتجاهات منها التفاعل مع جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات. وتأتي هذه الجهود ضمن "ظاهرة ما بعد التضامن"، التي تتبنّى قضية فلسطين بمبادرة ذاتية تتجاوز التعاطف التقليدي أو المساندة عن بُعد.

من الخطأ على أي حال احتساب جدوى المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات عبر مؤشرات عددية مجردة وحسب، من قبيل الخسائر المحددة أو حجم الاستثمارات المسحوبة مثلاً. لأنّ للموجة وظائف معنوية وهي تعبر عن التزام أخلاقي ورسائل مبدئية في المقام الأول، علاوة على مفعولها الضاغط على الاحتلال الذي يبدو أنه يتعامل معها أحياناً من زاوية عقدته الوجودية لما تنطوي عليه من إرادة العزل والوصم. ويبقى أنّ هذه الظاهرة تتيح لقطاعات من المجتمعات فرصة عملية للتصرف والمشاركة الملموسة في مواجهة نظام الاحتلال رغم الافتراق المكاني عن فلسطين.

صعوبات وتحديات

رغم تمدّد تجارب المقاطعة وتطورها في مجالات عدة، فإنها تواجه إشكاليات وصعوبات وتحديات في البيئات الأوروبية. من ذلك، مثلاً، أنّ نهج المقاطعة ظلّ في بعض الأوساط المتعاطفة تقليدياً مع قضية فلسطين محفوفاً بتساؤلات الجدوى والأولوية والكيفيات والمسارات، حتى إنّ بعض الأصوات والقوى والأحزاب التي عُرفت بمواقف إيجابية نسبياً من القضية الفلسطينية أعربت عن معارضتها لهذا النهج.

كما تلقى الظاهرة تأييدا جزئيا يتركز على القبول بمسارات معيّنة منها بينما تتحفظ بعض الأوساط عن خوضها في مسارات أخرى كالمقاطعة الأكاديمية. وينبغي في هذا المقام التفريق بين تحفّظات تتعلّق بالجدوى أو بترتيب الأولويات، وتحفّظات مبدئية تعارض فكرة المقاطعة أو ترى فيها "تمييزاً" وأسلوباً غير مقبول أو تحشد مبرِرات لرفضها كالقول مثلاً إنها ستمسّ غير الضالعين في الانتهاكات أو إنها لا تشجِّع على التوصل إلى تسوية للصراع. فقد حدّد حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني الليبرالي موقفه مثلاً بتأييد المقاطعة لكن ليس في المجالات جميعاً، شهدت الكنيسة المنهاجية (الميثودية) البريطانية في مؤتمرها سنة 2013 نقاشاً وتضاربا بشأن الموقف من المقاطعة، ثم أصدرت وثيقة موجزة ضمّنتها الآراء المؤيدة والمعارضة.

وتواجه مساعي المقاطعة صعوبات في التمدّد عبر أوروبا ككلّ، فلم تنجح في تثبيت أقدامها في عدد من البلدان لأسباب موضوعية أساسا، علاوة على تفاوتها في أشكال الحضور ومستواه بين بلد وآخر. ويعود ذلك إلى التفاوت في نمط نموّ المجتمع المدني وتطوّره وخبراته بين البلدان الأوروبية، خاصة بين غرب أوروبا وشرقها، فضلاً عن التباين بين تجارب تأييد الحقوق والعدالة في فلسطين وقضايا التحرر وحقوق الإنسان في العالم، ويبدو الصدع في ذلك واضحاً بين غرب القارّة وشرقها أيضا.

"من التحديات التي تواجه المقاطعة واقع التطبيع بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال في مجالات عدّة، علاوة على فتور تفاعل السلطة مع جهود المقاطعة والافتقار إلى تشجيعها، وهذا خلافا للموقف الشعبي الفلسطيني وجهود مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية في أوروبا وخارجها"
كما أنّ الفروق القائمة بين البيئات السياسية والإعلامية في بعض البلدان لها تأثيرها، كأن ينغلق بلد على رواية أحادية متحيِّزة بشكل جارف لمقولات دعاية الاحتلال، ويتجلى ذلك في دول وسط أوروبا وشرقها. وتُلقي خصوصيات بعض البلدان ذات الماضي النازي بأعباء على فرص المقاطعة في التمدد. ودأبت الذرائع المناوئة على تشبيه دعاوى المقاطعة بشعارات اشتهرت في العهد النازي لمقاطعة الإثنية اليهودية المحلية مثل "لا تشتروا من عند اليهود". 

وما يفاقم الصعوبات والتحديات ضغوط مكثفة ومحاولات تشويه وإعاقة تقوم بها أوساط مؤيدة لنظام الاحتلال أو حتى الدبلوماسية الإسرائيلية مباشرة، بما يؤدي مثلا إلى عرقلة بعض فعاليات "أسبوع الأربتاهيد الإسرائيلي"، بينما تواجه نشاطات مؤيدة لفلسطين إعاقات تقليدية في بلدان أوروبية عبر التشهير بها ومطالبة السلطات بحظرها أو الضغط على الجهات المالكة للقاعات والمرافق التي تقام فيها الفعاليات.

لكنّ صعوبات وتحديات من نوع آخر تنتصب في مواجهة جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، تتعلق بموارد المعلومات وفرص التحقق. فمساعي التعبئة والتوعية العامة لملاحقة المنتجات والخدمات والتعاقدات المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، تتطلّب موارد معلومات فعالة ودقيقة.

لكنّ واقع العولمة الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسية وتداخل الاستثمارات والمساهمات في الشركات وأدوار الوسطاء، ساهمت جميعاً في تراجع القدرة على تتبّع المنشأ، علاوة على تكيّف القطاعات الإنتاجية والخدمية المرتبطة بالاحتلال مع الواقع باتخاذ تدابير لطمس المنشأ الأصلي بما في ذلك عبر عمليات إعادة التصدير واستحداث شركات وسيطة وإجراءات تبييض منتجات الاحتلال من خلال جهة ثالثة وغير ذلك.

من شأن هذه الملابسات أن تشكل مصاعب عملية في وجه جهود المقاطعة، التي تتفاعل أساسا في مستويات محلية وعبر ناشطين ومتطوعين وتشكيلات تفتقر إلى مراكز متخصصة. وما يفاقم الصعوبات هي حالة تعميم قوائم غير مدققة تحتوي على وفرة واسعة من العلامات التجارية مثلاً التي لم يقع التحقق من ارتباطها باقتصاد الاحتلال أو قد تكون مضللة للجمهور لتبديد جهود المقاطعة.

ثمة معضلة أخرى مبعثها واقع التطبيع القائم بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال في مجالات عدّة، علاوة على فتور تفاعل السلطة مع جهود المقاطعة والافتقار إلى تشجيعها، وهذا خلافا للموقف الشعبي الفلسطيني وجهود مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية في أوروبا وخارجها التي تساند هذه الجهود أو حتى تبادر ببعضها.

المصدر: الجزيرة

 




- انشر الخبر -