درس من إسرائيل مؤمن بسيسو


تم النشر 02 ديسمبر 2016


عدد المشاهدات: 1604

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


ثمة دلالات بالغة ودروس كبرى ينبغي اليقظة بشأنها إثر الحرائق الواسعة التي التهمت العديد من المناطق داخل إسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية، والتي شكلت أحد أخطر الحرائق التي واجهت إسرائيل منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي وحتى اليوم.

لم يثبت بأي شكل من الأشكال أن الحرائق التي اشتعل أوارها داخل إسرائيل على مدار الأيام الماضية قد تمت بفعل فاعل، أو تسبب بها أحد من البشر، أو أن أحدا من الفلسطينيين أشعل شرارتها الأولى، ما يؤكد بقوة أن يد الله تعمل في الخفاء، وأن آثار القدرة الإلهية تتجلى اليوم في أوضح صورها ومعانيها إثر مشروع القانون الإسرائيلي حول منع الأذان في القدس والداخل الفلسطيني المحتل.

فالكون ليس سائبا، ولم تكن يد البغاة والظالمين والمتجبرين صاحبة الفعل والأمر يوما، فالأمر كله بيد الله، يفعل ما يشاء، وإن اقتضت حكمته تعالى جريان قدره في العباد بين صور المنحة والمحنة، وبين مسارب الرحمة والقهر، وألوان البسط والابتلاء.

ومن يعتقد أن الحرائق التي أعجزت الإسرائيليين على مدار عدة أيام رغم وفرة العدّة والإمكانيات هي محض صدفة أو مجرد حدث قدريّ اعتيادي فهو واهم كل الوهم، لأن الله يدافع عن دينه القويم حين يستنكف الناس، ويدفع بآية من آياته المعجزة أمام الخلق حين يطغى بعضهم تطاولا على الله ورسوله ودينه الحق، ليذيقهم شيئا من بأسه، ويردّهم إلى حقيقتهم البشرية المجردة، فارغة المحتوى، المتردّية إلى أسفل سافلين، التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا في ميزان القدرة والجبروت الإلهي.

"إن الدلالة الأبرز التي رسمت معالمها الحرائق الممتدة تأخذ بأيدينا إلى إحدى أهم نقاط الضعف الطبيعية داخل إسرائيل، فالكيان الإسرائيلي الذي اعتمد في حمايته وتحصيناته على القوة العسكرية التي ظنّ أنها مانعته من بأس الأعداء، يكتشف اليوم أن ترسانته العسكرية لا تملك له من حظوظ الحل والمنعة شيئا"

 

فهل كانت محض مصادفة أن تندلع الحرائق الكبرى في قلب الكيان الإسرائيلي في ذات اليوم الذي قدمت فيه حكومة الاحتلال مشروع القانون سيء الذكر حول منع الأذان في القدس والداخل الفلسطيني المحتل؟! وما سر عجز أجهزة الأمن الإسرائيلية عن إثبات ضلوع أي فلسطيني في إشعال فتيل هذه الحرائق الواسعة؟! وما سر عجز المؤسسة الإسرائيلية الرسمية بكل إمكانياتها عن مواجهة هذه الحرائق لعدة أيام، واستغاثتها بالمعونة الإقليمية والدولية لمحاصرة النار التي انتشرت كالهشيم؟

إن الدلالة الأبرز التي رسمت معالمها الحرائق الممتدة تأخذ بأيدينا -أيضا- إلى إحدى أهم نقاط الضعف الطبيعية داخل إسرائيل، فالكيان الإسرائيلي الذي اعتمد في حمايته وتحصيناته على القوة والبنى العسكرية التي ظنّ أنها مانعته من بأس الأعداء، يكتشف اليوم أن ترسانته العسكرية وإمكاناته اللوجستية لا تملك له من حظوظ الحل والمنعة شيئا، وأن إحدى أهم نقاط ضعفه تنبع من داخله بشكل بدا معه الكيان الإسرائيلي، حقا، كبيت العنكبوت.

في إسرائيل صرخوا بشدة من الألم بعد أن كوتهم النيران، وانكسر كبرياؤهم وعنجهيتهم بيد القدرة الإلهية القاهرة، فلم يردوا معونة أحد، وكانت عينهم، فقط، على إخماد النار وإعادة الحياة والاستقرار إلى الداخل الإسرائيلي الذي أصابه الإرباك والاضطراب على مدار الأيام الماضية.

إنها لحظات نادرة من لحظات انكسار العنجهية الإسرائيلية التي تجاوزت مؤخرا كل الحدود، وطالت بحقدها وبغيها القدس والمقدسات، وأطلقت العنان للاستيطان والتهويد، وها هي اليوم تركع رغم جبروتها واستكبارها أمام نذر بسيطة من صور القدرة والمشيئة، وتسمح للآخرين بأن يطؤوا بساطها ويلجوا ديارها في مشهد أراده الله أن يكون لهم مجللا بالمذلة والصغار.

هذا المشهد يستبطن الكثير من الدلالات والدروس الهامة التي ينبغي استيعابها واستيفاؤها من وحي الحدث، وأهمها أن الوسائل والأدوات العسكرية ليست نهاية المطاف، وأنها ليست كل شيء في مضمار المواجهة مع الاحتلال، وأن هناك وسائل وأدوات أخرى ليست بالضرورة ذات طابع عسكري، إلا أنها قادرة على إيلام الاحتلال وضربه في مقتل.

وبطبيعة الحال، فإن هذا يحيلنا بشكل ملحّ إلى أساليب ووسائل المقاومة الشعبية التي تم هجرانها لصالح الأساليب والوسائل العسكرية التي أصبحت الشغل الشاغل للفلسطينيين وموئل جهدهم وعملهم الكفاحي المقاوم.

وقد عبّر رئيس الائتلاف الحكومي الإسرائيلي دافيد بيتان عن هذه الحقيقة بالأمس حين أكد أن الحرائق ألحقت الضرر بالأمن والمجتمع الإسرائيلي أكثر من عمليات الطعن بالسكاكين، لأنها اضطرت آلاف الإسرائيليين لإخلاء منازلهم، الأمر الذي مس بالأمان والاستقرار الإسرائيلي الداخلي بشكل كبير.

والحال كذلك، ألم ترَ الفصائل الفلسطينية المسلحة أنها ضيقت واسعا واختزلت الخيارات الكفاحية ووسائل المقاومة في حيز محدود، وحيّدت الطاقات الشعبية الواسعة عن دائرة الفعل والمواجهة مع الاحتلال، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جهد كل فلسطيني، صغيرا كان أم كبيرا، لصدّ مخططات الاحتلال ومواجهة إرهابه الغاشم!


"لم يكن من الحكمة تغليب أسلوب المقاومة المسلحة على سائر الأساليب الكفاحية الأخرى في مرحلة ما بعد اندلاع انتفاضة الأقصى وحتى اليوم، والنتيجة أننا أسهمنا كفصائل، بغير وعي وإرادة، من خلال التعزيز الحصري لأسلوب المقاومة المسلحة في تقليص أعداد المتفاعلين مع الجهد الوطني الكفاحي"


المقاومة الشعبية هي إذن، كلمة السر، ولا وجاهة للرؤى والتقديرات التي تستخف بالمقاومة الشعبية ودورها في مقارعة الاحتلال والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية.

وحتى اللحظة، فإن الفصائل الفلسطينية لم تدرك، حقيقةً، مدى أهمية وخطورة المقاومة الشعبية، ولم تبتدر أي محاولة جادة لاستخلاص العبر من المراحل والمحطات الكفاحية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني.

لم يكن من الحكمة تغليب أسلوب المقاومة المسلحة على سائر الأساليب الكفاحية الأخرى في مرحلة ما بعد اندلاع انتفاضة الأقصى وحتى اليوم، والنتيجة أننا أسهمنا كفصائل، عن غير وعي وإرادة، من خلال التعزيز الحصري لأسلوب المقاومة المسلحة في تقليص أعداد المتفاعلين مع الجهد الوطني الكفاحي الفلسطيني، وأضعفنا المشاركات الشعبية الواسعة التي اقتصر دورها على الصمود والثبات في وجه الاحتلال فحسب.

الثورة والمقاومة الواعية هي التي تحسن استخدام الأساليب الكفاحية بما يتناسب مع طبيعة وظروف كل مرحلة من المراحل، وتوظيفها في إطار وطني شامل، فهناك مراحل يبدو فيها استخدام المقاومة المسلحة مثلا ذو عواقب خطيرة وتبعات ضارة، وها هنا فإن المقاومة الشعبية وغيرها من الأشكال والأساليب الأخرى تكون الخيار الأصوب للتعامل مع تلك المراحل بما يتفق مع الأولويات والمصالح الوطنية الفلسطينية.

إن أبسط مقتضيات الوعي الوطني الفلسطيني تقضي بحسن استخدام وتوظيف الأساليب الكفاحية المختلفة، فكل شكل من أشكال المقاومة يستتبع أنماطا شتى ينبغي دراستها بعناية، واختيار ما يتواءم منها مع الظروف والمناخات والمعطيات السائدة كي تؤتي أكلها وتحقق أهدافها بعيدا عن المزاجية والعفوية والارتجال الذي يخلط الأوراق الوطنية، ويجعل من الساحة الوطنية والكفاحية سوقا كبيرا تتقاذفه الأهواء والأجندات المختلفة.

ولا مفر من الاعتراف أن البيئة السائدة اليوم لا توفر مرتعا خصبا لاستخدام المقاومة المسلحة، ما يجعلنا أكثر انجذابا وتفاعلا مع أسلوب المقاومة الشعبية الذي أثبت فعاليته المحققة وأثره العميق في إسناد وتعزيز الحالة النضالية الفلسطينية والتصدي للمخططات والممارسات الإسرائيلية.

شئنا أم أبينا، فإن الدرس الأبلغ الذي قدمته لنا النار التي استعرت في الداخل الإسرائيلي، أن المقاومة الشعبية يجب أن تشكل عنوان المرحلة الراهنة بامتياز، وخصوصا أن الانقسام قد فعل فعله وبلغ مبلغه في واقع القضية الفلسطينية والوضع الفلسطيني الداخلي، وباتت المقاومة المسلحة أسلوبا باهظ التكاليف اليوم، في إطار معادلة معقدة تحكم الواقع الفلسطيني الداخلي ولا يبدو معها في الأفق مجالا لأي تغيير أو تعديل في أيّ من مركباتها على المديين: القريب والمتوسط على أقل تقدير.

المؤلم أن حديث الفصائل الفلسطينية عن أهمية أسلوب المقاومة الشعبية في خطاباتها وأدبياتها السياسية، بقي حبرا على ورق، ولم يتجاوز كونه حديثا إعلاميا ذو توظيف سياسي فحسب دون أي آليات عملية على أرض الواقع.


"يفترض أن تُحرج حرائق إسرائيل الفصائل الفلسطينية المنشغلة بلهو الحديث والإعراض العملي عن الدفاع عن الحقوق والمقدسات، وهي ترى دولة بكاملها تئنّ تحت النيران، وتتكشف عيوبها وثغراتها ونقاط خللها ووهنها، فيما تقف هي موقف المتفرج الغافل الذي لا يحسن تقدير الأمور"


ما يعنينا أن نطرح جوهر المقاومة الشعبية بقوة هذه الأيام، وأن نبادر لاستثمار الانكسار الإسرائيلي أمام سطوة النيران المحرقة، كي نستنهض همّة المواطن الفلسطيني ونُشعره بقيمته الوطنية وفعاليته الكفاحية، كي يأخذ دوره في مسارات المواجهة الشعبية مع الاحتلال.

ومع ذلك، ينبغي الاعتراف أن التفعيل المطلوب للطاقات الشعبية الفلسطينية من خلال المقاومة الشعبية لن يؤتي أكله أو يحقق ثماره المرجوة إلا عبر بحث وطني فصائلي للأفق والخيارات الفلسطينية المستقبلية، وصولا إلى إرساء إستراتيجية موحدة تقع المقاومة الشعبية منها موقعا متميزا، بما يعين على توفير الإسناد المطلوب للقضية الفلسطينية والوضع الفلسطيني الداخلي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، ويعمد بنفس وحدوي إلى إيلام الاحتلال ومواجهة ظروف وتحديات المرحلة القادمة.

فالجهود والطاقات الشعبية باتت محكومة للنزعة الفصائلية الضيقة هذه الأيام للأسف الشديد، وأضحت المشكلة أوضح ما تكون في لجوء أصحاب المبادرات والحراكات الشعبية المختلفة إلى تعزيز جهودهم بمرجعيات تنظيمية فصائلية، بشكل مباشر أو غير مباشر، ما جعل هذه المبادرات والحراكات نسخا باهتة من العمل الفصائلي الرتيب الذي حشر جهده وأعماله في النطاق المسلح فحسب.

الأكثر خطورة أن العديد من الفصائل الفلسطينية تنظر إلى أي جهد أو مبادرة شعبية فلسطينية حقيقية بمنظار الشك والريبة، وتعمل على تعطيل تقدمها وكبح مسارها في معظم الأحيان، وكأنّ العمل الوطني بات حكرا على الفصائل الأساسية، أو كأنّ العمل الشعبي المقاوم تحول إلى شبهة وطنية ما لم ينبثق عن هذه الفصائل التي أدمنت الخصومة والاحتراب وباتت المصلحة الوطنية لديها في ذيل الاهتمامات.

وبكل صدق وصراحة، يفترض أن تُحرج حرائق إسرائيل الفصائل الفلسطينية المنشغلة بلهو الحديث والإعراض العملي عن الدفاع عن الحقوق والمقدسات، وهي ترى دولة بكاملها تئنّ تحت النيران، وتتكشف عيوبها وثغراتها ونقاط خللها ووهنها على رؤوس الأشهاد، فيما تقف هي موقف المتفرج الغافل الذي لا يحسن تقدير الأمور أو مراجعة المسار، ويمر عليها درس النيران مرور الكرام دون عبرة أو اتعاظ.

حاجتنا، كفلسطينيين، اليوم أكثر ما تكون مساسا إلى وقفة مراجعة وتقييم، فلا مجال لمزيد من الترف والعبث في الوطن والقضية، ولا مجال نحو مزيد من الغفلة وتضييع الوقت تحت وهم الشعارات الخادعة والمصطلحات البراقة، وما لم يلتقط الفلسطينيون، قوى وفصائل وشخصيات وشرائح مجتمعية، درس النيران القادم من إسرائيل، ويعقدوا العزم على خوض غمار معركة المقاومة الشعبية بكل قوة ومضاء، فإنهم سيغرقون أكثر فأكثر في بحور الوهم والغفلة والجدال، وسيستيقظون ذات صباح على ما لا تحمد عقباه.

المصدر : الجزيرة

  إقرأ المزيد  
 https://palinfo.com/191761
 جميع الحقوق محفوظة - المركز الفلسطيني للإعلام




- انشر الخبر -