مذبحة خانيونس 1956 ستون عامًا جرح لم يندمل بقلم : د.محمد البطة


تم النشر 05 نوفمبر 2016


عدد المشاهدات: 3199

أضيف بواسطة : أ.محمد سالم


مذبحة خانيونس نوفمبر1956

ستون عامًا جرح لم يندمل

يأتي الثالث من نوفمبر هذا العام على أهالي مدينة خانيونس لينبش جرحًا لم يندمل منذ ستون عامًا مضت ففي هذا اليوم اعتدت قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة عام 1956 وقامت باحتلاله حتي السابع من مارس/آذار عام 1957، وخلال هذه الفترة وقعت إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها العصبات الصهيونية وجيشها الاحتلالي في تاريخها المشهود له بالاجرام، بدأت أحداث هذه المجزرة حين نفذت قوات جيش الاحتلال عمليات اعتقال واسعة لعدد كبير من سكان القطاع وخصوصًا في مدينتي  خانيونس ورفح التي حدثت فيهما عدة مجازر كبيرة للأمنيين من الاهالي؛ بسبب ما شكله جنوب القطاع من مقاومة مستميته أعاقت تقدم قوات الجيش الإسرائيلي لفترة وجعلته أمرًا صعب.

        عرف هذا الاعتداء بالعدوان الثلاثي علي مصر، (اسرائيل فرنسا بريطانيا) كان الهدف المعلن من قبل الحكومة الاسرائيلية لهذا الاعتداء هو القضاء على الفدائيين الفلسطينيين في القطاع الذي كان لهم دورًا كبيرًا في مقاومة الاحتلال والهجوم على المستوطنات الصهيونية في اقليم غزة والنقب كمستوطنة عراق المنشية ودير سنيد وعرب السويدات، فضلًا عن وجود كتيبة الفدائيين 141 التي أسسها الضابط المصري مصطفي حافظ وكانت أولى العمليات لهذه الكتيبة في 25-26 آغسطس1955 بإبادة دورية إسرائيلية وتصاعدت وتيرة هذه العمليات وشملت الاراضي المحتلة عام1948 من شمالها الي جنوبها تاركة وراءها 1176 قتيلا صهيونيًا، وهو ما عجزت عنه بعض الحروب العربية الاسرائيلية.  

بسبب هذه العمليات صدر تصريح شهير لرئيس الوزراء الاسرائيلي ليفي أشكول "متى أستيقظ صباحا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر"" غير أن الاهداف الغير المعلنة من هذه الاعتداء أي احتلال قطاع غزة 1956 كان هو الانتقام من أهالي القطاع وإمعان شهوة الانتقام من الفلسطينيين ويدل على هذا كثافة عدد الشهداء والطريقة التي اتبعوها في  المذبحة والتي  تدل على دموية جنود الاحتلال وعدم إنسانيتهم أيضًا، ومثالًا على ذلك نذكر قصة الشهيد حسن حافظ البطة الذي كان أحد ضباط الجيش الفلسطيني  (اللواء 86 الفلسطيني والذي كان يرابط في القطاع تحت امرة الجيش المصري)

فلما وقع العدوان الثلاثي ولى الضابط حسن البطة إحدى فصائل حامية خانيونس وأخذ يقاتل اليهود، قتالا مستميتًا كغيره من أفراد لواءه سابق الذكر في خانيونس الذين قاوموا مقاومة مستميته أعاقت تقدم قوات الاحتلال لمدة ستة أيام لم يستجب خلالها الضابط حسن إلى نداء اليهود له بالاستسلام بل ظل يواصل القتال حتى استشهد أكثر جنوده وأصبح وحده في الميدان فوقع أسيرًا في أيديهم، ولكنهم لم يعاملوه معاملة الاسرى بل سحبوه على وجهه حتى ادخلوه منزله وفيه ذبحوه ذبحًا أمام أمه وأبيه وألقوا رأسه في حجر زوجته، وقتلوا أخوه نديد ابن العشرين عامًا رميًا بالرصاص وعدد من الذين كانوا قد احتموا في منزل الشيخ حافظ البطة كونه أحد علماء فلسطين المعروفين وقتذاك.

يزداد المشهد بشاعة بعدم السماح للأهالي بدفن شهدائهم بسبب فرض حظر التجول على المدينة، الأمر الذي دفع الشيخ حافظ لدفنهم في فناء بيته حتى رفع الحظر عن النساء فقط بعد عدة أيام من فرضه، قامت ابنة الشيخ حافظ البالغة من العمر خمسة عشرة عامًا "نديدة"  ومعها عدد من الصبية دون سن الحلم بنقل الجثامين إلى مقبرة الشيخ يوسف في سوق خانيونس، خلال هذه الفترة الوجيزة.

 ولما رفع الحظر كليا قام الشيخ حافظ رحمه الله بالتأكد من دفنهم حسب الشريعة الاسلامية. هذه المشهد لم يفارق من كان في البيت من نساء وصبية توارثه الاجيال ويرووه لجيل بعد جيل من شدة ما ترك من الم في النفوس، تكررت هذه المجازر بصور مشابهة ومختلفة تاركة وراءها في بيوتٍ كثيرةٍ جرحٍ لم يندمل منذ ستين عامًا.

 وأما عن المشهد العام للحدث خارج بيت الشيخ حافظ البطة فعلى الفور قام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ ما سمّي "بأيام التفتيش العام يذكرنا هذا المصطلح بمحاكم التفتيش في الاندلس التي استهدفت المسلمين واليهود على حدٍ سواء، حيث كان كل من يلقى القبض عليه من قبل الإسبانيين يقتل،  ومن الواضح أن اليهود أعادوا إنتاج الحدث مع الفلسطينيين، فكان يفرض منع التجول علي إحدى المناطق في القطاع، ويأمر السكان بالتجمع في مكان محدد وغالبًا ما ينتهي هذا التجمع بمجزرة.

ولقد وقعت عدة مجازر ما بين الثالث إلى السابع عشر من نوفمبر عام 1956، وفي عدة مناطق من القطاع ومنها مدينة رفح ومخيماتها، ومدينة خانيونس، وضواحيها، تحت حجة البحث عن السلاح والفدائيين والذي قدر "موشي ديان عددهم "ب700 فدائي، إلا أن من قتل كان أضعاف هذا العدد، مما يدل على أن من قتلوا  في هذه الفترة كانوا في قبضة الجيش وليس في ميدان المعركة وما حدث لهم هو عملية إعدام واضحه بحق المعتقلين المدنيين، وأسرى الحرب وقد جرت عملية إعدام جماعي وفردي بغرض تفريغ الأرض من سكانها([1]).

      ومن الدلائل الواضحة على إعدام المعتقلين من الأهالي من قبل أفراد الجيش، ما رواه شهود عيان عاصروا الحدث، في خانيونس ورفح، من قصص  منها أن قوات الاحتلال أمروا كل السكان من الفئة العمرية 15-50 عاماً بالتوجه إلى ساحة القلعة وسط مدينة خانيونس التي تحولت إلى مقر تجمع فيه الأهالي امتثالاً للأمر العسكري عبر مكبرات الصوت، وسلموا أنفسهم لقوات الجيش وهم رافعين أيديهم ومفضلين الاعتقال على الموت، حيث كان يصلب الناس إلى الحائط وتطلق عليهم النيران في كل اتجاه وحدث هذا أيضًا في ساحة مستشفى ناصر وساحة الحاووز في معسكر خانيونس([2])، فضلًا عن اقتحام البيوت وقتل الشباب فيها ولم تسلم المستشفيات ولا المرضى ولا طاقمها الطبي من القتل المتعمد.

وفي 3 نوفمبر نفذت المجازر ضد المعتقلين من الأهالي في كل من خزاعه وبني سهيلا، ويوم 4 نوفمبر في القرارة وبلدة الزنة (شرق خانيونس)، وفي 5 نوفمبر كانت في المواصى وتل ريدان على شاطئ بحر خانيونس، فضلًا عن وقوع مجزرة في مدينة غزة وضواحيها يوم 10 نوفمبر، و في 12 من نفس الشهر حدثت مذبحة المدرسة برفح وقتل فيها أعداد كبيرة([3]).

وأما عن المشهد في رفح فقد أمرت قوات الاحتلال كل السكان في المدنية  من الفئة العمرية 15-50 عاماً بالتوجه إلي "المدرسة الاميرية"، وحذرت كل من يخالف بالعقاب الشديد، عبر مكبرات الصوت، ولم يسمع هذا النداء إلا بعض الناس، بعد ذلك بدأ الجنود يدخلون كل البيوت ويجمعون الناس، ويسوقونهم بالنار والقتل وملأت  الجثث الطرقات([4]).    

     وأما من استطاع الوصول إلي المدرسة  فقد تعرض للإصابة أو الضرب والإهانة في طريقه إليها وهناك العديد من لقي حتفه قبل أن يصل المدرسة، ومن نجا ووصل إلي ساحة المدرسة، أُجلسوا في وضع القرفصاء ساعات طويلة، ثم عرضوا للتحقيق علي يد محقق يدعي "ناحمن" ناحمن هذا كان جاسوس إسرائيلي في قطاع غزة  ثم اختفي فجأة ليظهر في هذا اليوم([5]).

وبعد انتهاء التحقيق كانوا يساقون جماعات، كل جماعة تتكون من4-10 أشخاص لا يعود منهم إلا القليل، حيث كانوا يقتلون، ويلقي بهم من الشباك الخلفي لتحملهم السيارات التي أحضروها خصيصًا لهذا الغرض، حيث تنطلق السيارات بمن فيها إلي مناطق أخرى، غرب رفح وخصوصًا تل زعرب وتل السلطان حيث دفنت الجثث هناك ([6])، وتكرر هذا في المعسكرات الوسطى  وفي مدينة غزة وضواحيها.

      ويوجد تباين في أعداد الضحايا حيث  قدرت بعض المصادر عدد القتلى من أهالي مدينة خانيونس وضواحيها ب 600 ومئات الجرحى([7])، وحسب احصائيات جامعة الدول العربية، بلغ عدد القتلى في مجزرة مدينة غزة 256، و108 مفقودًا، 142 جريحاً([8]). وحسب احصائيات الأمم المتحدة فإن عدد القتلى في خانيونس قدر 275 وفي رفح غير معروف العدد([9]). وذكرت مصادر أُخرى بأن حصيلة مجزرة رفح قدرت بنحو200 وما يقارب 23 مفقودًا و156 مصاب([10]).

ومن الجدير بالذكر أن هذه المجازر لم تقتصر على المعتقلين من الفلسطينيين فقط بل تم إعدام أعداد كبيرة من الأسرى المصريين، وقد تم الاعتراف فيما بعد بمقتل 35 أسيرًا مصريًا خلال حرب السويس عام 1956، وقد ذكر التلفزيون "الإسرائيلي" نقلًا عن وثيقة عسكرية رسمية نشرتها صحيفة "دفار" أن كتيبة المظليين رقم 890"الإسرائيلية" قتلت الأسرى المصريين بناءً على أوامر من رفائيل إيتان([11]) ومن الجدير ذكره أن أعداد المفقودين والأسرى المصريين في حرب عام 1956 يفوق ستة الآف جندي([12]) ويؤكد الكثير ممن عاصروا الحدث، أن الجيش الإسرائيلي كان يقوم بالقتل  الفردي والجماعي لأى جندي أو مدني مصري يجده في قطاع غزة([13]).

       وبعد الانسحاب من القطاع في السابع من مارس/آذار 1957 بدأ الاهالي في البحث عن المفقودين من أبنائهم ومن الممكن تقسيم المفقودين إلى قسمين: فريق تم اعتقاله ولم يتم إعلام أهله بذلك ومنهم من تم قتله وإخفاء جثته في مقابر جماعية. و عدد كبير من الذين اعتبروا مفقودين بعد انسحاب إسرائيل "لم يعثر عليهم بين الأحياء، وتبع ذلك اكتشاف قبور جماعية، وجثث، وتوالت هذ الاكتشافات حتي 26 يونيو1957 حيث بلغ عدد الجثث التي تم العثور عليها  230 جثة. وذكرت بعض الروايات أن الجيش أجبر عدد من المعتقلين على حفر خنادق بأيديهم لتكون مقابر لهم([14]).

         وهناك مفقودون لم يستدل عليهم بين الأحياء  ولا على جثامينهم بين الأموات ربما كانوا قيد الاعتقال في السجون الإسرائيلية آنذاك، ويؤكد هذا القول ما جاء على لسان  الكاتب الإسرائيلي روني شكيد، الذي قال، أن اليوم الأسود في حياة إدارة مصلحة السجون هو 31 تموز/يوليو 1958 والمعروف بتمرد "شطة"، حيث أن عشرات من "الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجن "شطة" وعلى رأسهم الأسير المصري الصحافي "أحمد عثمان" والمتهم بقضية تجسس لصالح مصر قد قتلوا اثنين من السجانين الإسرائيليين وهربوا من السجن، واستطاع 66 أسيرًا منهم الهروب من السجن والوصول إلى الأردن، وقد قتل 11 أسيرًا وأصيب 13أسيرًا آخرًا،([15]). ومن الجدير بالذكر انه كان هناك عدة سجون في إسرائيل للاسرى الفلسطينيين والعرب منها اجليل عتليت وشطة، وتولى مصلحة السجون في ذلك الوقت تسفي حرمون والذي اقيل علي خلفية هذا التمرد. 

        وأخيرًا يمكن القول أن هذه المجزرة لم تلقى الاهتمام الواجب في تاريخ النضال الفلسطيني ولم تتناقلها وسائل الاعلام  كغيرها من المجازر والمذابح التي ارتكبتها قوات الاحتلال الاسرائيلي مثل كفر قاسم ودير ياسين بالرغم أنها أكثر عددًا وأكثر  بشاعة منهما حيث استمرت عمليات القتل لأكثر من خمسة عشر يومًا متواصلة عمت مدينة خانيونس وضواحيها ومدينة رفح أيضًا ولم تسلم مدينة غزة من هذه المذبحة كما سبق الذكر..

دكتور محمد عبد الجواد البطة

 الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر




- انشر الخبر -