من صام إيماناً واحتساباً تمتع بالطعام والشراب الأبدي عطاءً حساباً د. يونس الأسطل


تم النشر 07 يونيه 2016


عدد المشاهدات: 1879

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


(من صام إيماناً واحتساباً تمتع بالطعام والشراب الأبدي عطاءً حساباً)

] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[ ( الحاقة 24)

 

     يقوم الصيام على ترك الطعام والشراب وقضاء الوطر في أَنْهُرِ رمضان، فقد أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، كما أبيح لكم أن تأكلوا وتشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وكان صيام الذين من قبلكم من مغيب الشفق الأحمر عِشاءً إلى مغرب اليوم التالي، ومَنْ غاب عن الوجود بالنوم لم يَجُزْ له أن يتناول شيئاً، حتى لو استيقظ والشفق باقٍ في الأفق الغربي.

    لذلك فإن الصائمين يفطمون أنفسهم عن تلك الشهوات الملحة على أصحابها، خاصة وأن النفس أمَّارة بالسوء، وأن الشيطان يأمركم بالسوء والفحشاء، ويزين للفاسق سوء عمله، فيراه حسناً، فيكون ممن ضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، ولكن المؤمن قد أيقن أن الشيطان له عدوٌ، فاتخذه عدواً؛ لأنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، كما أن النفس كالطفل متى شَبَّ على حُبِّ الرضاع، وإنْ تفطمه ينفطم، فلما أطاعوا ربهم، وحَرَموا أنفسهم تلك الشهوات  إيماناً منهم بأن الله عز وجل لا يأمر بشيءٍ، أو ينهى عن شيءٍ؛ إلا لأنه يريد بكم اليُسْر، ولا يريد بكم العسر، بل ما جعل عليكم في الدين من حرج، ملةَ أبيكم إبراهيم، ولو شاء الله لَأَعْنتكم، لكنه يريد أن يخفف عنكم، وخُلِق الإنسان ضعيفاً.

    أما هذه الآية فتبشر المتقين الذين يُؤْتَوْن كتبهم بأيمانهم أنهم يكونون في عِيشةٍ راضية، في جنةٍ عالية، قطوفها دانية، ويقال لهم تكريماً : (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)؛ أي كلوا فقد جُعْتم، واشربوا فقد عطشتم في الحياة الدنيا التي قد خلت من قبل أن تقع الواقعة، وتنشق السماء فهي يومئذٍ واهية؛ فقد انشقت فكانت وردةً كالدهان، ثم ذابت فكانت كالمهل، ثم عادت سيرتها الأولى غازاتٍ وأبخرةً مكوِّنةً ظُلَلاً من الغمام، فقد استوى ربُّنا إلى السماء أول مرة وهي دخان، فقضاها سبع سموات في يومين، وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها.

    إن هذه الآية لم تُفَصِّلْ في ألوان الأطعمة والأشربة التي يمتن الله تبارك وتعالى بها عليكم – أهلَ الجنة-، غير أنه ذكر ذلك في مواضع أخرى كثيرة من كتابة العزيز، وأكثرها يدور على فاكهةٍ ولحم ٍ مما يشتهون، مع أن أهل الفردوس يُكْرَمون بزيادة كبد الحوت نُزُلاً من غفور رحيم أولَ مقدمهم إليها ودخولهم فيها.

    أما الفاكهة فهي كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإن المتقين في ظِلال وعيون، وفواكه مما يشتهون، ولكنهم كلما رُزِقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل، وأُتُوا به متشابهاً، حيث إن العين تعجز عن التفريق بين صنفٍ وآخر، فقد تشابهت الفاكهة عليهم، ولكنَّ الْوِلْدان المخلَّدين يُلِحُّون عليهم أن يتذوقوه، فإذا هو لونٌ جديد، وهذا يؤكد أن لكم فيها فاكهة كثيرة، منها تأكلون، وقد عدَّ من أنواعها النخل الباسقات، وذكر الرُّمَّان، وكذلك السِّدر المخضود، والطلح المنضود، أي السدر الذي لا شوك فيه، والموز النضيد المرتب بعضه فوق بعض بطريقة هندسية تأخذ بالألباب، وحسبنا أنه فيهما من كلِّ فاكهة زوجان، وأن الجنة أُكُلُها دائمٌ وظِلُّها، وأن لهم فيها ما يشاؤون، ولدينا مزيد.

    وأما اللحم فقد جاء مقيَّداً بكونه لحم طير مما يشتهون، وقد جاء في بعض الآثار أن الطير يمرُّ بأحدكم في الجنة فيشتهيه، فيخرُّ مشوياً بين يديه، ولكن بعد أن يقول : ( سبحانك اللهم)؛ فإن مَنِ اشتهى شيئاً فَحَسْبُهُ أن يدعو بذلك الدعاء، ومتى قضى شهوته منه حمد الله تعالى؛ مصداقاً لقوله سبحانه:     ] دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ ( يونس 10)

    ففي هذه الآية أول الدعاء، وآخره كذلك، وهو قائم على تنزيه الله عن العجز وهو مدلول التسبيح، ثم إثبات جميع صفات الجلال والجمال والكمال لذات الله سبحانه وتعالى، وهو مدلول التحميد.

    فإذا انتقلنا إلى الأشربة وجدنا بعد الكوثر جنةً فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ،  و أنهارٍ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مُصَفَّى، كما وجدنا الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجُها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً، فحيثما تَنَقَّلوا في جِنَانِهم فبإمكانهم أن يفجِّروا تلك العين؛ إذْ يكفيه أن يركض الأرض برجله، فإذا هي مغتسلٌ باردٌ وشراب.

    كذلك فإنهم يُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زنجبيلاً، عيناً فيها تسمى سلسبيلاً، وبعضهم يُسْقَوْنَ من رحيقٍ مختوم، ختامه مسك، ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقرَّبون؛ أي يتمتع بها ويتنعم، فالشراب للمتعة لا للرِّيِّ، فما في الجنة ظمأٌ أبداً، كما أن أهلها لا يجوعون ذات مرة بتاتاً.

    وهناك شراب يطوف به الولدان المخلدون الذين يحملون صِحَافاً من ذهبٍ وأكواباً من فضةٍ كانت قواريراً، أيْ شفافة كالزجاج، يُرَى باطنها من ظاهرها، فليستْ معتمة كالفضة في الدنيا، وتلك الأكواب بعضها أباريق، وهو مَالَهُ عُرْوةٌ يمسك بها الكوب، غير أن الولدان المخلدين الذين تراهم لؤلؤاً منثوراً، كأمثال اللؤلؤ المكنون، يعرفون حاجة كلِّ شخصٍ، فيقدِّمون له كأساً مقدرةً على مقاس رغبته، بحيث لا تنقص عما تشتهيه نفسه، ولا يزيد في الكأس أو الإبريق شيء تعافه النفس أبداً، هذا فضلاً عن الأكواب الموضوعة بجوار السرر المرفوعة في الجنة العالية، التي لا تسمع فيها لاغية.

    أذلك خير نُزُلاً أم شجرة الزقوم التي جعلها الله فتنةً للظالمين، أم طعام الضريع، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو شوكٌ يابس يغرس أنيابه في الحناجر، فيكون طعاماً ذاغُصَّةٍ وعذاباً أليماً؛ لأنه لا يموت بسببه ولا يحيى، أم طعام الغسلين الذي لا يأكله إلا الخاطئون، وهو غسالة أهل النار، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، وسُقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم، فإذا كانوا من أكابر مجرميها صُبَّ من فوق رؤوسهم الحميم، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، لأن الله عز وجل قد قال في أبي جهل بعد أن تَوَعَّده بالزقوم كالمهل يغلي في البطون كَغَلْيِ الحميم : ] خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ* ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ* ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [  ( الدخان 47-49)

    وهناك لونٌ ثالثٌ من عذاب الحميم، وهو أن يلقى فيه أهل النار، فيطوفوا بينها وبين حميمٍ آنٍ، حين توضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون، أو كما قال سبحانه:] ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ* ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ[ ( الصافات 67-68) .

    إنهما صورتان متباينتان تماماً، فمن شاء فليصمْ، ومن شاء فليفطرْ، فقد أعتدنا للمفطرين جوعاً وظمأً يأكلون معه الزقوم والضريع والغسلين، ويشربون الحميم والغساق والمُهْل والصديد، الذي يتجرعه المجرم، ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بمِّيت، وأما الصائمون فهم يدعون فيها بكل فاكهةٍ آمنين، وأمددناهم بلحمٍ مما يشتهون، ومن حولهم الولدان المخلدون الذين يطوفون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معين.

 

اللهم اجعلنا ممن زُحْزِحَ عن النار، وأُدخل الجنة، ففاز فوزاً عظيماً




- انشر الخبر -