الرَّبْطُ على القلوب بالرضا بقضاء الله عَلَّامِ الغُيوب ، بقلم د.يونس الأسطل


تم النشر 14 مايو 2016


عدد المشاهدات: 2841

أضيف بواسطة : عبدالعال محمد


في رحاب آية 

د. يونس الأسطل 

  

( الرَّبْطُ على القلوب بالرضا بقضاء الله عَلَّامِ الغُيوب ) 

  

 "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " 

الصافات (103-107) 

رأيتُ الإعجاب في أعين الأكثرين، كما لحظتُ الاستغراب في صفحات وجوه الكثيرين؛ ذلك أنني ابْتُليتُ بِفَقْدِ أحد أنجالي وقد ناهز الثامنة عشرة- في حادث سيرٍ طرحه في مخدع العناية المكثفة فوق أسبوعين، ثم اصطفاه الله إلى جواره، وقد حان الآن بعد الفراغ من التعازي أو التهاني أن أكشف بعض المعاني التي ربط بها ربُّنا تبارك وتعالى على قلوبنا، فأظهرْنا من التجلد ما أدهشَ الأصحاب والأغراب، فطفقوا يسألون عما وراء ذلك من الأسباب؟!. 

إن آية المقال فيها أعظم الأسرار في جواب ذلك السؤال؛ فإن الإسلام هو الاستسلام لأمر الله وقدره عن رضىً واختيار، ومع الغبطة والسرور بطاعة الله الرحيم الغفور؛ فإن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يُرزقِ الولد إلا بعد أن أصبح شيخاً كبيراً، وقد كُلِّفَ أن ينقله وأمَّه من فلسطين إلى وادٍ غيرِ ذي زرعٍ عند بيت الله المحرَّم، ولم يكن هناك أثرٌ للحياة في تلك الأثناء، وربما زارهم في كلِّ عام مرةً أو مرتين، حتى إذا بلغ معه السعي، وصار قادراً على الكسب، إذا سيدنا إبراهيم يُوحى إليه في المنام أن يقوم بذبحه بيده، ولم يقع أيُّ تردُّدٍ في قبول التكليف بِنَفْسٍ مطمئنة، وحين أَطْلَعَ الغلامَ على أمر الله تقبَّله بنفسٍ راضية مرضية، وجعل يحرِّض أباه على تنفيذ أمر الله، وقد وعده أن يجده من الصابرين؛ وقد كان صادقَ الوعد، وكان من بعدُ رسولاً نبياً، وكان عند ربِّه مرضيَّا. 

وقد حانتْ لحظة التنفيذ، فشحذ المُدْيَةَ، وتَلَّهُ للجبين؛ فإذا به يسمع هاتفاً أن يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيا، وكان ذلك هو الامتحانَ المبينَ لحقيقة الاستسلام لرب العالمين من أبي الأنبياء وأبي العرب إسماعيل على حَدٍّ سواء، وقد فداه ربُّه بكبش عظيم، كما كافأ سيدنا إبراهيم بإسحق نبيَّاً من الصالحين، وأن يعيش حتى يرى من ذريته إسحق يعقوب، وهو نبي الله إسرائيل الذي كان من ذريته يوسف وإخوته، ومن ذريتهم اثنتا عشرة أسباطاً أُمُماً، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين. 

وانظروا إلى أمِّ سلمة رضي الله عنها؛ فقد تُوُفِّيَ صبيٌّ لها قبل أن يؤوب زوجها إليها عِشاءً، فسألها عن الوليد، فأخبرته أنه أهدأ ما يكون، وكانت قد تهيَّأت له، فأصاب منها، حتى إذا صلَّى الغداة سَأَلتْه عمَّا إذا كان لأحدٍ عنده أمانة، فجاء يستردها؛ أكنتَ تدفعها إليه؟!، فردَّ بالإيجاب، فأخبرته أن الله عز وجل قد استردَّ وديعته، وقبض قُرَّةَ عينه، فعاتبها أنها لم تخبره حتى تلوَّثَ بالجنابة، وقد عجب النبي صلى الله عليه وسلم من صنيعها، ودعا لهما بالبركة في ليلتهما، فأبدلهما ربُّهما خيراً منه زكاةً، وأقرب رُحْماً، فقد كان أبواه مُؤْمِنَين. 

وتلك الخنساء التي كادتْ تقتل نفسها أَسَىً على أخيها صخرٍ في الجاهلية حين فقدتْه، فقد كان يؤرِّقها التذكُّر حين تُمسِي، فتصبحُ وقد بُلِيَتْ بِفرْط النكْسِ واليأس، حتى إذا أُوتيت العلم والإيمان قَدَّمتْ أربعةً من الولد شهداء جملةً واحدةً في معركة القادسية، فما كان منها إلى أن حمدتِ اللهَ تعالى أن شَرَّفها بقتلهم وشهادتهم، ورَجَتْ أن يجمعها بهم جميعاً في بيت الحمد عند ربِّها، فإن مَنْ فَقَدَ فلذة كبده، أو ثمرة فؤاده، فحمد الله واسترجع، أمر الله تبارك وتعالى ملائكته أن يبنوا له بيتاً في الجنة، وأن يُسَمُّوه بيت الحمد، كما جاء في الحديث. 

إن الذي يجزع لِفَقْدِ البنين والأحبة يجمع على نفسه مصيبتين، مصيبة الموت، ومصيبة الألم للقرح، ولن يُغَيِّرَ من قدر الله شيئاً، بينما لو كان من الصابرين القائلين: إنا لله، وإنا إليه راجعون؛ فإنه يفوز بصلواتٍ من ربِّه يخرجه بها من الظلمات إلى النور، ويظفر بالرحمة التي لا يدخل أحدٌ الجنة إلا بها، ويكافأ بالهداية علاوةً من الله جلَّ وعلا؛ فكيف إذا ارتقى إيمانه، فكان ممَّن فوَّض أمره إلى الله، أو سما أكثر ليكون من الراضين الشاكرين؟!. 

إن الله عز وجل يُخَبِّئ المنح في المحن، ويُخفي النِّعم في النقم، ويستر الخير بظاهر الضُّر؛ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، وهو الذي يُخرج الحيَّ من الميت، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. 

وإن مما يواسي النفس أن الموت ما هو إلا نهاية مرحلة، وليس نهاية الرحلة، والموتى يزورون القبور، ثم يبعثون في يوم النشور، وقد اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون، كما اقتربتِ الساعة وانشقَّ القمر منذ بعثة خاتم النبيِّين، وما القبور إلا مَرْقَدٌ لنومٍ عميق، ولو قيل لصاحبه: كم لبثتَ؟، لأجاب: لبثتُ يوماً أو بعض يوم، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. 

ومن الجدير بالذكر أن الموت خيرٌ للإنسان من الحياة؛ فإنها دار الشقاء، وما عند الله خيرٌ للأبرار، وأما الذين كفروا فإن موتهم يقطع آثامهم، فيخفُّ به عذابهم، ولو أخذهم بِسُنَّةِ الإملاء لازدادوا إثماً، فكانوا في الدركات السفلى من النار، وبئس القرار. 

هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، خاصة إذا ألهاكم التكاثر، وكنتم ممن تُلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله، وقد يظن بعض الناس أن إمدادهم بالأموال والبنين مسارعة لم في الخيرات، إلَّا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضِّعْفِ بما عملوا، وهم في الغرفات آمنون، وأما من جعل الله له مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ثم يطمع أن يزيد، فإنه سَيُرْهِقُهُ صَعوداً، وإنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، ولن يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً؛ بل يَفْرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبَنيه، لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، يوم تأتي كلُّ نفسٍ تجادل عن نفسها، وكلهم آتيهِ يوم القيامة فرداً، فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ، ولا يتساءلون. 

وإنَّ في الله المعبود عزاءً من كلِّ مفقود 




- انشر الخبر -