دور المقاومة الفلسطينية وتأثيرها على مستقبل المشروع الصهيوني


تم النشر 31 مارس 2016


عدد المشاهدات: 1621


قسم الدراسات - محمود مرداوي

+-


لا شك أن المشروع الصهيوني لا زال يعاني من عجزه في حسم صنع الوجود (من خلال تحقيق اعتراف شعبي فلسطيني بوجوده) جراء فشله في قدرته للتوصل إلى شراكة في تقاسم السيطرة والحكم في فلسطين مع اصحاب الارض والوطن الأصليين، لذا نرى العدو منهمكا في حرب مستديمة ضد الفلسطينيين وثورتهم على مدار احتلاله أتت على حساب مواجهة الأعداء على الحدود من الدول العربية في المئة الماضية لذا بقيت دولة (اسرائيل) متمسكة في مشروعها الصهيوني الرافض للشراكة من جهة، والعاجز عن حسم الصراع وجعل الفلسطينيين كشعب يسلموا بوجوده كأمر واقع من خلال القمع والقتل والتدمير.
 

لقد تبدى للمقاومة فهمها للعدو واضحا من خلال خطابها العميق للمؤسسة السياسية التي تحكم دولة الاحتلال وعلاقة الأحزاب فيما بينها وإمكانية تشكيل الحكومات وتعقيداتها، وطبيعة تأثيرها على تسيير الأمور وإدارة الحكم واتخاذ القرارات

لذلك تُعتبر (اسرائيل) دولة وضع راهن تعتمد على  السياق الجيواستراتيجي الذي تشكل بعد حرب 1948 حين أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة الاحتلال على جزء من أرض فلسطين بقوة السلاح والقبول الدولي من خلال الاعتراف الأممي، وحتى تحافظ (إسرائيل) على نفسها كأمر واقع تعتمد على الحفاظ على الردع واللاتوازن لصالحها على هذا الأساس، ووفق هذا الفهم تواجه المقاومة المشروع الصهيوني لوحظ في الآونة الأخيرة تغير ملموس في فهم المقاومة للعدو من خلال التعامل معه كما هو بكل ما يملك من قوة ومصادر وتنظيم وتسلح.

لقد تبدى فهمها للعدو واضحا من خلال خطاب المقاومة العميق للمؤسسة السياسية التي تحكم دولة الاحتلال وعلاقة الأحزاب فيما بينها وإمكانية تشكيل الحكومات وتعقيداتها، وطبيعة تأثيرها على تسيير الأمور وإدارة الحكم واتخاذ القرارات.

إضافة لعلاقة المؤسسة السياسية بالمؤسسة العسكرية والتداخل بينهما والارتباك والتباين الذي ظهر واضحا في محطات مفصلية مثل حرب العصف المأكول وانتفاضة القدس.

إن هذا الفهم للعدو كما هو موجود وليس كما هو مأمول على حاله بتكوينه وبناءه ونقاط ضعفه وعناصر قوته اسهم بالنجاح والتطور، إضافة للموضوعية التي تحلت بها المقاومة في فهم امكاناتها الذاتية والموضوعية والتصرف وفق هذا الفهم بمنتهى المسؤولية والالتزام الوطني والأخلاقي تجاه قضايا الوطن وتمثيلها.

إن المقاومة الفلسطينية حولت الشعب الفلسطيني من مجرد لاجئ يبحث عن مكان يلتجئ إليه إلى صاحب قضية يبحث عن الوسائل لإستعادة حقوقه وتجسيد هوية. إلى جانب تحمل مسؤولية الدفاع عن الوطن وحماية الحقوق وسد الطريق أمام كل القوى التي أرادت أن تتصرف بالنيابة عن الشعب الفلسطيني في تقرير مصير منقوص يرتقي إلى مستوى تصفية القضية، حيث منعت كل هذه التكتلات والكيانات من التصرف بالنيابة عن الشعب الفلسطيني في الوقت الذي أبقت الأبواب مفتوحة أمام الجميع لأخذ دورهم  في واجب الدفاع عن الأرض والوطن وواجب نصرة الفلسطينيين.

إن هذا الفهم العميق الذي تبلور لدى المقاومة جراء تراكم الخبرة وثراء التجربة والإحساس بعظم المسؤولية ترجمت ذلك انجازات في الواقع واستطاعت في العقود الأخيرة من التقدم في التصدي للمشروع الصهيوني لتحل مكان الدول، فتشكل أزمة حقيقية لجيش مسلح من أخمس القدم  إلى أعلى الرأس بأعتى الأسلحة ومؤلل بأفضل المعدات على وجه المعمورة لتجعل كل هذا البناء عاجزا عن أن يمثل ردا كافيا للتحديات التي فرضتها المقاومة في الميدان، ليبدأ الجيش بتشكيل اللجان لدراسة التغيرات الحاصلة ومحاولة ملائمة نفسه أو بنائه معها في عدة محطات ومناسبات دون أن يمتلك الحل، وقد قام في خلال العقدين الأخيرين بإعادة بناء الجيش وفق 4 خطط متتالية بدأها بخطة (كيلا) ففشلت لينتقل إلى خطة (كيشت) التي هي الأخرى لم تحقق المطلوب ولن تشكل ردا للتحديات التي تمثلها المقاومة على مختلف الجبهات لينتقل إلى الخطة الثالثة (تيفن) ثم الرابعة (جدعون) لإعادة بناء الجيش بما يتوافق وطبيعة التهديدات المتوقعة خلال السنوات القادمة .
 

مثلت المقاومة مصدرا للثقة بالنصر لدى الفلسطينين وحالة وعي ويقظة لمخاطر المشروع الصهيوني وفهم مركباته فهما عميقا ساعد في شحد الهمم وانبراء الرؤية وتحديد الهدف واختيار الوسائل المناسبة في إطار الممكن وفق منهجية تعكس هذا الفهم وتترجمه سلوكا في الواقع

لقد مثلت المقاومة مصدرا للثقة بالنصر لدى الفلسطينين وحالة وعي ويقظة لمخاطر المشروع الصهيوني وفهم مركباته فهما عميقا ساعد في شحد الهمم وانبراء الرؤية وتحديد الهدف واختيار الوسائل المناسبة في إطار الممكن وفق منهجية تعكس هذا الفهم وتترجمه سلوكا في الواقع  من خلال تنوع الوسائل وفق رؤى لتحقيق الأهداف الوسيطة وقد تجلى ذلك بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عندما أقدم الشهيد يحيى عياش على الرد في عمق دولة الاحتلال ليقول لا يمكن أن تقتل الفلسطينيين في مساجدهم وقراهم في الضفة وغزة والشتات وتعيش آمنا في العفولة والخضيرة. الأمر الذي أحدث تغييرا في الأولويات المجتمعية لدى الكيان في ظل عدم استطاعة الخيار العسكري إنهاء المقاومة في تغيير لمفهوم تقديس الحيز الجغرافي ليدخل تعديلات جذرية على العقيدة العسكرية الصهيونية مفهوم الانكماش تحت مسميات (الانسحاب أحادي الجانب) وحصل ذلك في لبنان والضفة وغزة ونتج عن ذلك انكماشا من خلال بناء جدر فاصلة تشكل عوائق.

إن استمرار المقاومة جعل المجتمع الصهيوني يعاني جراء ذلك اجهادا من استمرار الصراع نتج عنه تقليص في قدرة المجتمع على تحمل الخسائر في ظل صراع مستمر وحروب متكررة لا تنتهي، إضافة إلى أنه أصبح فاقدا للثقة بمؤسسات الدولة العسكرية والسياسية والتشريعية والقضائية والإعلامية إلى درجة تقلص عدد الذين يرغبون في الالتحاق بالخدمة العسكرية إلى الربع خلال الأعوام التي حصلت فيها الحروب. ومن تابع حرب الفرقان ومجرياتها يستذكر كيف أن التعليمات والأداء الميداني العملياتي صمم مع طبيعة المخاوف والإجهاد الذين يعاني جرائهما المجتمع (الإسرائيلي).

لقد أثرت المقاومة على طبيعة بناء الجيش الصهيوني وما زالت تؤثر، ثم فرضت على العدو انكماشا جغرافيا في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، إذ أن (إسرائيل) لم تعد تتحمل انهماك عدد كبير من جنودها في الحفاظ على الاحتلال في ظل صمود الشعب وبلاء المقاومة منقطع النظير.

في حين يعتقد أن هذا الانكماش خلف الجدر يلبي حاجة المؤسسة العسكرية إلى اقتصاد في تكريس هذه الأعداد الكبيرة في تحقيق الأمن الجاري لبسط السيطرة على المناطق التي أعاد الانسحاب منها. لكن بدون شك هذا التغيير في التفكير لن يلاقي نجاحا جراء مفاعيل صواريخ المقاومة التي شكلت تحديا من نوع آخر للمؤسسة العسكرية. 

لقد مارست المؤسسة العسكرية بتوجيه من المستوى السياسي استراتيجيات عدة لاحتواء المقاومة وفرملة تأثيرها على المشهد السياسي وتعطيل قدراتها القتالية، فاستخدمت: 

أولاً: استراتيجية الإخضاع؛ حيث حاول ايهود باراك ارغام الشعب الفلسطيني القبول على ما طرحه في كامب ديفيد جراء الاجتياحات والتصفيات إلا أن هذه السياسة فشلت من خلال صلابة موقف المقاومة وبسالتها، ثم ليمارس شارون استراتيجية الاستنزاف والتي كانت تستهدف انهاك الفلسطينيين من خلال رفع فاتورة الدم وجعل ثمن الهزيمة عاليا يمثل درسا لا ينساه الشعب الفلسطيني. إلا أن إرادة الشعب وصمود المقاومة حال دون تحقيق نجاح لهذه.

ثانياً: استراتيجية الاستنزاف حيث استدعى الجيش "الإسرائيلي" الاحتياط، إلا أن هذا الأمر انعكس سلبا حيث أنهك الاقتصاد الاسرائيلي، وحدث تآكل في قدرات الجيش نتيجة الاستمرار في ظل الميزانية وأثرت على جهوزيته  وتدريبه، ومع كل القتل الذي حدث فشل شارون واضطر للاعتراف بأن ما يجري في الضفة بعد 2003 إنه احتلال.

ثالثاً: استراتيجية إدارة الصراع، شارون بعد فشله في تحقيق انتصار سياسي بعد المجازر التي ارتكبها انتقل إلى إدارة الصراع، والذي يهدف لتثبيت واقع أمني معقول يحل الردع الجوي محل الوجود العسكري على الارض ثو يفرض حلا سقفه حكما ذاتيا على الفلسطينيين. لكن بعد فوز حركة حماس في الانتخابات 2006 تم استخدام الحصار فأصبح الفلسطينيون أوﻻ شعب يحاصر اقتصاديا ويقاطع دوليا . وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة أضيف للحصار والمقاطعة السعي لتصفية المقاومة من خلال سنة ونصف من الاستنزاف تلتها حربا شاملة خاضها الجيش (الاسرائيلي) بعد أن أخذ العبر من حرب لبنان الثانية التي انكشفت فيها فرضية (اسرائيل) خوض حرب بلا قتال، ومع ذلك بقيت هذه الفرضية قائمة في حرب الفرقان 2008/2009 حيث افترض الجيش (الاسرائيلي) أن إسقاط ما يزيد على مئة طن من القنابل والمتفجرات على مواقع متعددة في قطاع غزة في بداية الحرب سيؤدي لشل مركزية القيادة وتعطيل عقل المقاومة الفلسطينية. إلا أن إسرائيل وجدت نفسها مرتبكة من ارتداد الصدمة، فالضربة الأولى المكثفة والمدمرة لم تحقق مفعولها بشل المقاومة وجعلها بلا إرادة وبذلك أعادت المقاومة الحرب إلى مضمونها صراع ارادات بالإضافة الى صراع قدرات. الأمر الذي أدى بالجيش (الاسرائيلي) الى اللجوء الى خطط بديلة تتطلب القتال الميداني لاستكشاف انعكاسات خطاب المقاومة على المستوى العملياتي في الميدان. لكن عندما تبين أن أعدادا من الجنود سيقتلون على يد المقاومة تردد الجيش وتراجع عن خوض معارك قتالية مباشرة مع المقاومة . 

وفي أواخر عام 2012 حاول الجيش الاسرائيلي تكرار المحاولة من خلال عمليات القصف الجوي المتواصل والذي استمر ثمانية أيام مكتفيا بذلك تفاديا لوقوع خسائر في الأرواح لتنتهي دون أن يحقق أي هدف باستثناء عملية اغتيال القائد أبو محمد الجعبري وفي 2014، افترضت المؤسسة العسكرية أن الضربات الجوية في المراحل الأولى فعلت فعلها وحققت مرادها وأن الحرب البرية ضرورية لتحقيق انجازات ملموسة بعكس حرب حجارة السجيل وما هو مطلوب لا يتعدى تأكيد بسط السيطرة لكن تفاجأت القوات البرية عندما واجهت احتكاكا شرسا مع المقاومة في الشجاعية والتفاح وبيت حانون وعبسان والزنة ورفح والسودانية، وكل موقع حاول الاحتلال التقدم فيه الأمر الذي حول ما كان يفترض أن يكون بسطا سلسا للسيطرة  تحول إلى معارك طاحنة لتحقيق السيطرة بقيت القوات تراوح حول نفسها في الأماكن التي تقدمت فيها قليلا لكنها منيت بخسائر وتعرضت لإهانات حطت من مستوى الجيش وأظهرته عاجزا مقهورا فاقدا لقدرته على المناورة المريحة وغير متمكن من تقديم صورة نصر بحث عنه طوال 51 يوما من الحرب.

المقاومة حمت كيانات عربية من أن تسقط تحت سيطرة الاحتلال وزعزعت الثقة لدى الجمهور"الإسرائيلي" بقيادته السياسية وشككته بقدرة جيشه العملياتية فأصبح الجيش عرضة للنقد ولم يبق شيئا مقدسا يحظر المس به، واخرجته من دائرة الاجماع 


لقد نجحت المقاومة الفلسطينية في حماية القضية وأبقت على الوعي العربي الشعبي نقيا من أن يتلوث في استيعاب الكيان ذهنيا والاعتراف به واقعيا. كما أنها فرضت على المؤسسة العسكرية تغييرا جذريا في قواعد العقيدة العسكرية فلم يعد قادرا على نقل المعركة الى ارض(الخصم) ولم يتمكن من الحسم ولا حتى الردع ولم يعد قادرا على الحصول على معلومات مبكرة تساعده على مواجهة المقاومين، كما ان المقاومة فرضت عليه الانكماش. وبذلك أجبرته على الانسحاب وحمت كيانات عربية من أن تسقط تحت سيطرة الاحتلال وزعزعت الثقة لدى الجمهور"الإسرائيلي" بقيادته السياسية وشككته بقدرة جيشه العملياتية فأصبح الجيش عرضة للنقد ولم يبق شيئا مقدسا يحظر المس به، واخرجته من دائرة الاجماع، ثم إن صمود الشعب الفلسطيني وقدرة المقاومة على الابتكار والصمود والاجتهاد عمق الصراعات في داخل المؤسسة السياسية وزعزع العلاقة مع المؤسسة الأمنية والعسكرية. بالاضافة لنجاح المقاومة في إثارة مسألة بقاء الدولة واستمرار احتلالها لفلسطين على مائدة الحوار الجماهيري الصهيوني باستمرار وهي ما زالت إلى هذه اللحظة تواجه المشروع الصهيوني ببسالة وتتحرك كموج البحر من مكان إلى آخر في فلسطين وما انتفاضة القدس إلا دليل على هذا التنوع والقدرة على مواجهة المشروع في نقاط ضعفه محيدا كل ما يملكه هذا الكيان من آلة بطش ودمار.

وأخيراً يجدر بنا ونحن نسلط الضوء على نجاحات المقاومة منقطعة النظير على التحدي والصمود بالإرادة والعلم والإيمان بأن النصر من عند الله، أن نشير إلى أن عدونا مسلح من أخمص القدم إلى أعلى الرأس، مؤلل بأحدث الدبابات والمدرعات، ومدجج بأعتى الطائرات ومزود بأرقى التكنولوجيات مدعوماً اقتصادياً ومسنوداً سياسيا ودبلوماسياً ، يغطى بعلاقات امبريالية الأمر الذي يحتم علينا الطموح الكبير ويدعونا للاستمرار بتعلم عدونا واستشراف توجهاته وسياساته وقراءة نقاط ضعفه ومعرفة مواطن قوته مستخلصين العبر والدروس من تجاربنا في لقاءه ومواجهته، مستلهمين من إرثنا وتاريخنا الإسلامي النصر بالصبر والتضحية، نبحث عن مواطن للقوة فينا ونعززها ومواطن الضعف ونقويها. ندرس أدائنا بتجرد ونقوِّم أخطائنا وننقد فعلنا بمسؤولية واضعين نصب أعيننا ضرورة الالتحام مع الجماهير وزرع الثقة واليقين بالنصر في عقولهم وقلوبهم، وأن نعدد مصادر قوتنا بالاعتماد على الذات وبكل وسيلة وطريقة أخرى نحرص على أن نجعل عدونا لا يسمع ولا يرى إلا ما نريد. نحرمه من قراءة سلوكنا ومعرفة خططنا وتوجهاتنا حتى يوقن بأن الموت سيواجهه من حيث لا يدري، ويطارده في المكان والزمان الذي لا يعرف.

المصدر المركز الفلسطيني للإعلام




- انشر الخبر -