هل الفوضى مدخل للتحول الديمقراطي؟ تجربة تونس نموذجا (2من2)


تم النشر 28 سبتمبر 2020


عدد المشاهدات: 1149

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


أحمد القاسمي

1 ـ  قيس سعيد ذلك الرئيس الذي نجهل

هل يعرف التونسيون حقا رئيسهم؟ المصادر شحيحة لا تجود بغير معلومات قليلة تخبرنا عن الأستاذ الجامعي الذي يدرس القانون الدستوري أو يشغل منصب الأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري لدورة أو دورتين في تسعينيات القرن الماضي. وربما أسعفتنا بسرد قصة صعوده إلى كرسي الحكم، التي عرفت بالزلزال السياسي، خريف 2019. فقدرت أنه تسلل إلى الدور الثاني بغتة وأن صعوده مثل لغزا يتبارى، إلى اليوم، المحللون في فهمه دون أن يصلوا إلى الجواب المقنع، وأنه كان رئيس الضرورة في الدور الثاني وقد حصل ما حصل. 

فلأسباب مبدئية وأخلاقية وأمنية اختاره التونسيون الذين فتحوا أعينهم فجأة على أسطورة تنتشر انتشار النار في الهشيم لرجل يرتدي جبة النسك ويتعفف عن تمويل حملته من المال العام فيما يقبع منافسه في الزنزانة بتهمة التهرب الضريبي ويتعاقد مع عميل للاستخبارات الإسرائيلية لتلميع صورته في العالم. وتحاول حلقتنا هذه أن تنخرط في لعبة المُربكة (Puzzle). فتعود إلى تصريحاته وإلى حواراته القليلة وإلى سلوكه في ممارسة الحكم وإلى أحاديثه مع ضيوفه أو خطبه في الجماهير، لتشكل منها صورة للرجل وتحاول أن تعرّف الرأي العام العربي بالحاكم الفوضوي الثاني في تاريخهم السياسي.

2 ـ فوضوي يدخل قصر قرطاج

كنا قد عرضنا، في الحلقة السابقة، أهم تصورات الفلسفة الفوضوية لإدارة الشأن العام. ووقفنا عند أمرين أساسيين: موقفها الرافض للمركزية ومنه رفضها لسلطة الدولة وقلبها لهرم الممارسة الديمقراطية فتنتزع النفوذ من أعلى الهرم الذي تتبناه الديمقراطية التمثيلية وتمنحها إلى قاعدته، إلى عموم الشعب. ولذلك يشار إلى تصورها بالديمقراطية القاعدية أو التشاركية. وقيس سعيد واضح في تبنيه لهذه الأطروحات.

أ ـ مواقفه من الدولة:

لا يعلن قيس سعيد مواقف مناهضة للدولة بشكل صريح، وكيف له أن يفعل ذلك وهو على رأسها؟ ولكنه يظل يهاجم باستمرار مؤسساتها لانحرافها عن غاياتها ويتحاشى التعاطي معها ما أمكن. فكثيرا ما صوّب سهامه نحو أعضاء البرلمان واصفا عملهم بخيانة المؤتمن وانحرافتهم بكونها "مرضا سياسيا ومرضا دستوريًا، هو ربّما أكبر من الجائحة التي انتشرت في كلّ أنحاء العالم" متهما إياهم بالعمل لصالح لوبيات نهب المال العام  و"الجراد الذي يقتات من خيرات البلاد" ويسعفه الجناس بتخريج بلاغي يماهي بين تشريع القوانين ونهب المال العام. فـ"كلما ازداد نص، إلا وازداد معه لص، وكلما ازدادت النصوص، تضاعف عدد اللصوص ". 

وتمثل الأحزاب المرمى الثاني لسهامه. فقد ظل يعمل على ترذيل دورها ورفض التعاطي معها واتهامها بالكذب على الشعب لاستدراجه لانتخابها وإخراجها في صورة "كافور الإخشيدي" كناية عن الوعود الكاذبة التي استدرج بها المتنبي إلى مصر ليمدحه. ولعل اختياره لرئيس الحكومة من خارج ترشيحات الأحزاب لمرتين وعدم استقباله لرؤسائها للتشاور معهم أبرز دليل على ذلك. ويؤكد خطابه في مدينة بنقردان، بمناسبة إحياء ذكرى تغلبها على الهجوم الداعشي دليلا آخر عن موقفه الرافض لها. فقد توجه إلى الحاضرين بالقول: "لا تتركوا أحدا غيركم يريد مكانكم.. بهذا الشكل الذي تقومون به لن تجنوا إلا الوهم.. بعد 10 سنوات ماذا قدّموا لكم ولتونس وللوطن كله أنتم الذين تحاسبونه تسحبون منه الوكالة.. ما معنى الانتخابات؟ أنتخبتك يا فلان لتمثل هذه  العمادة أو المعتمدية، انتخبتك لتعبر عن إرادتي لا عن إرادة سلطة مركزية في قطيعة تامة مع مطالبكم... المهم هو تغيير الآليات القانونية..." متهما الطبقة السياسية مرة أخرى "بالتعبير عن إرادات يتم صنعها على المقاس (المتنفذين وأصحاب المصالح)..." "وأنتم أصحاب المقاس". وكعادته يلجأ إلى المجاز فيساوي بين جميع الأحزاب في خيانة الناخبين، قائلا: "أنتم تحلمون هنا وهم يحلمون في مكان آخر رؤوسهم على نفس الوسادة".


بـ ـ الدعوة إلى الديمقراطية القاعدية:

يدعو قيس سعيد في أكثر من مناسبة إلى التخلي عن الديمقراطية النيابية وإلى تبني الديمقراطية القاعدية وحواره مع "الشارع المغاربي" وثيقة مرجعية مهمة تؤكد ذلك. فضمنه يُسأل: هل ستحذف الانتخابات التشريعية؟ يجيب: "نعم حتى يصير المركز تأليفا لمختلف الإدارات المحلية" ثم "الديمقراطية النيابية في الدول الغربية نفسها أفلست وانتهى عهدها" أو "انتهى عهد الأحزاب. الشعب صار يتنظم بطريقة جديدة انظروا ماذا يحدث في فرنسا بالسترات الصفراء وفي الجزائر والسودان.. الأحزاب مآلها الاندثار مرحلة وانتهت في التاريخ." 

ويضيف: "الأحزاب على هامش الدنيا في حالة احتضار ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سيتنهي دورها" مقدرا "نحن دخلنا مرحلة جديدة من التاريخ..[مرحلة] الانتقال الثوري الجديد" التي سيقودها الشعب. ويدعو صراحة إلى الديمقراطية القاعدية فتسأله الجريدة: هل ستطرح تنقيحا للدستور؟ فيجيب "نعم والتعديلات ستشمل أن يكون البناء قاعديا ينطلق من المحلي نحو المركز" مقترحا إنشاء مجالس محلية "فلا يتم قبول الترشح من قبل الهيئة المعنية إلا بعد تزكية المرشح من قبل عدد من الناخبين والناخبات مناصفة حتى يكون مسؤولا أمامهم.. [فـ]ـما يوضع من مشاريع ينبع من الإرادة الشعبية ووكالة النائب على المستوى المحلي يجب أن تكون وكالة قابلة للسحب" معلنا نيته إلغاء الانتخابات البرلمانية والتشريعية لـ"ـيتم التصعيد من المجالس المحلية الى الجهوية ثم الى البرلمان". 

3 ـ فوضويان بنكهة عروبية وأخرى إسلامية

فقد وجه الفوضويون نقدهم للكنيسة وللدين باعتبارهما سلطتين تضيران بالحرية التي يعتقونها ويجعلونها المحرار لكل قناعاتهم. ولئن سايرهم قيس سعيد في بعض أطروحاتهم، فصرّح بأنه "لا يمكن أن يكون للدولة دين، باعتبارها ذاتا معنوية، في حين أن الدين يكون للأفراد والأمم" فإنه يجعل التشريع القرآني الخط الذي يقف عنده الطموح إلى الحرية. فمن منطلقه يرفض المساواة في الميراث، يقول في الحوار المذكور سلفا جوابا عن سؤال: هل متمسك بموقفك الرافض لمشروع قانون المساواة في الميراث؟ "نعم وسأرد عليهم بأمور علمية. نعم هناك فرق بين المساواة والعدل". 

ويضيف في كلمته في عيد المرأة بأن القرآن حسم الجدل حول هذه المسألة وأن "المساواة كما تمت بلورتها في الفكر الليبرالي مساواة شكلية لا تقوم على العدل بقدر ما تقوم على الإيهام به" ولكنه يبرر موقف من داخل المنطق الفوضوي نفسه الذي يتهم الليبرالية باعتماد معايير شكلية مبررا للاستغلال وعدم تمثلها للفرق بين العدل والمساواة. وعلى النحو نفسه ومن منطلق ديني يرفض إلغاء الحكم بالإعدام ويرفض المثلية متهما المثليين بالحصول على الدعم من الخارج لضرب الأمة.

 

 

لا تخلو الفوضوية من الشعارات الجميلة والنوايا الحسنة. ولكنها بالمقابل تفتقد إلى الإجراءات العملية لتحقيق مجتمع اللا ـ دولة الذي يعمل تلقائيا للصالح العام ويقصى بنفسه عن نفسه كلّ النزعات الأنانية.

 

 



ويرى البعض أنّ شيئا من العقيد الليبي معمر القذافي في أقوال قيس سعيد ومواقفه. ولا يكون هذا الرأي إلا همسا. فلا يريد أصحابه المغامرة بإعلانه صراحة. والحق أنّ العودة إلى خلفيات الرجلين لا تدع مجالا للشك في أوجه القرابة الفكرية بينهما. فكلاهما يناهض الحكم عبر آليات الأحزاب وجميعنا يتذكر شعار القذافي "من تحزّب خان" بينما يصفهم سعيد بخيانة المؤتمن. وكلاهما يتبنى الديمقراطية القاعدية. 


ففي 2 آذار (مارس) من العام 1977، تم الإعلان عن قيام سلطة الشعب في ليبيا. وعُد نظام الحكم فيها نظاما "جماهيريا" نسبة إلى حكم الجماهير لنفسها بنفسها ومنها تسمية ليبيا بـ"ـالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية" وتبنت الديمقراطية المباشرة عبر آلية المؤتمرات الشعبية. فتم تركيز مؤتمر في كل حي  وأطلق على تجمعاتهم اسم الكومونة، وكنا قد عرضنا انبهار الفوضويين يكومونة باريس واعتبارهم إياها نموذجا للديمقراطية النقية. ويتم التواصل بينها عبر مؤتمرات تنعقد ثلاث مرات في السنة: صياغة القرارات والتصويت عليها. 

وفي الكتاب الأخضر يعرّف القذافي "النظام الجماهيري" بكونه "النظام الذي يحكم فيه الناس أنفسهم؛ دون وصاية، عن طريق المؤتمرات الشعبية الأساسية؛ أي على المستوى الأساسي للمكان سواء كانت المدينة أو القرية أو الحي السكني (الكومونة الجماهيرية). ويقسم الناس في كل منطقة إلى مؤتمرات شعبية أساسية (تختار أمانتها لتسير المؤتمر الشعبي ولجنتها الشعبية لتنفيذ ما يصدره المؤتمر من قرارات)، وتجتمع المؤتمرات الشعبية سنويا في دورة لوضع جدول الأعمال ودورة لمناقشته ودورة لمناقشة القضايا المحلية في إطار المؤتمر الشعبي الأساسي". 

ولأن الفوضوية تمثل نزعات غير منسجمة لم تكن تقبل التعريف الصارم. ولعل ذلك ما جعل البعض يشبهها بالورقة البيضاء التي يمكن أن تخط عليها ما شئت. وشاء قيس سعيد أن يطوعها ليمنحها أفقا إسلاميا فيجمع بين مقولاتها حول الحرية وتعاليم الإسلام وتشريعاته. فهذا الجمع ما جعله يرى في عمر بن الخطاب نموذجا يهتدي به، وهو القائل "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" والمتخَذ أيقونة ترمز إلى العدالة في التاريخ الإسلامي. وكان معمر القذافي قبله قد منحها أفقا قوميا عروبيا (بما في ذلك تعويض التطلع للحرية والديمقراطية بالاستبداد وتحويل حلم الجماهيرية حكم عائلي).
 
4 ـ قيس سعيد الحالم مرتين:

لا تخلو الفوضوية من الشعارات الجميلة والنوايا الحسنة. ولكنها بالمقابل تفتقد إلى الإجراءات العملية لتحقيق مجتمع اللا ـ دولة الذي يعمل تلقائيا للصالح العام ويقصى بنفسه عن نفسه كلّ النزعات الأنانية. لذلك يعاب عنها بعدها الطوباوي الحالم. أما قيس سعيد فحالم مرتين. فهو حالم أولا كما يحلم عامة الفوضويين بهذا المجتمع المثالي. زد على ذلك أنّ في الفوضوية شيئا من الترف الفكري الذي يناسب مجتمعات بنت مؤسساتها ثم ضاقت بمنظومات حكمها ذرعا وأخذت تعمل على تغييرها. أما المجتمعات العربية فلم تخرج بعد من حكم القبيلة والعشيرة والجهة التي تحكمها العصبية أو لعلّها لم تهضم بعد مفهوم المنظومة والدولة ومفهوم المواطنة لا يزال رخوا لم يتجذّر بعد فيها. ومخلفات حكم القذافي في ليبيا تعفينا من مزيد التفصيل.

وهو حالم ثانيا لأن مشروعه، بصرف النّظر عن مدى جدواه، يقلب الحياة السياسية رأسا على عقب. ويسحب البساط من تحت أقدام أطراف عديدة مستفيدة من المنظومة القائمة. أخطرها لوبيات المال والأحزاب على اختلاف مرجعياتها الفكرية. فكيف له أن يحققه وهذان الطرفان يمسكان بزمام الحياة السياسية ويسيطران على البرلمان وعرض أي قانون على الاستفتاء يحتاج موافقة ثلثي النواب. ليس له إلا أن يواجه أحلامه وحيدا، وهو المفتقر للكاريزما والجاذبية اللتين تحتاجها مثل هذه المهام، ولا ينتمي إلى تنظيم ولا أنصار له غير طلبة يرون فيه الأستاذ النزيه والمربي الفاضل لا القائد السياسي الملهم. لذلك يفوته أن الديمقراطية القاعدية ليست غريبة عن التونسيين. فهي معتمدة بين النقابيين والقرارات في الاتحاد العام التونسي للشغل تتخذ انطلاقا من النقابات الأساسية إلى النقابات والاتحادات الجهوية إلى المكتب التنفيذي في أعلى الهرم. والأمين العام لهذه المنظمة ينتخب من قبل أعضاء المكتب التنفيذي. وكل عارف بالكواليس النقابية يعلم أن نتائج هذه الآلية كارثية. فممثل الهيكل أو "كبير الناخبين" الذي يختار لينوب عن المجموعة في الانتخاب يمثل نفسه غالبا ولا يمثل المجموعة التي فوضته، ويصوت وفق مصالحه الشخصية أو يضع صوته في المزاد ويحوله إلى رأس مال افتراضي. ويكون مدخلا فسيحا للفساد. وفي الآن ذاته يعمّق البيروقراطية. فتغيير رأس السلطة وتوجهاتها يتطلب سنوات لتغيير النقابات الأساسية أولا فالجهوية ثانيا فالعامة فالمكتب التنفيذي. فتجربة الاتحاد العام التونسي للشغل تثبت أن قلب هرم الديمقراطية وغرسها على رأسها وجعل قاعدتها في الأعلى يبعدها أكثر عن الديمقراطية النقية المنشودة ويفقدها التوازن. فلقوانين الجاذبية سلطانها.




- انشر الخبر -