ثمانية أخطاء إستراتيجية في الحركة الفلسطينية (1-2) معين الطاهر


تم النشر 29 سبتمبر 2019


عدد المشاهدات: 1156

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


هذه محاولة للتفكير خارج السرديات المتعارف عليها في الكتابات التي تروي تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة؛ إذ عادة ما تهتم تلك النصوص بسرد الرواية التاريخية للوقائع، وتمجيد المعارك والبطولات، فرديةً وجماعية، وتخليد الشهداء وذكر مآثرهم. وعلى أهمية ذلك كله وضرورته، إلّا أن ثمّة حاجة ملحة لتناول التجربة الثورية الفلسطينية من منظور آخر، لا يمسّ منجزاتها وبطولاتها، بقدر ما يحاول أن يتلمّس أسباب إخفاقاتها، ونقاط التحوّل الكبرى في مسيرتها، ما حالَ بينها وبين تحقيق حلم الشعب الفلسطيني في التحرير، على الرغم من أنها أكبر حركة تحرّر وطني معاصرة، وأطولها مدة.

تنحصر هذه المقالة فيما يعتقد الكاتب أنها ثمانية أخطاء إستراتيجية وقعت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية، فحوَّلتها عن مسارها، وحرفتها عن أهدافها الأولى، وأدَّت إلى إضعافها، وحمَلتها على تقديم تنازلات متتالية، ما انعكس على مسيرتها، وأوصلها إلى حالها الآن. متجنبًا بذلك أي نقد آخر قد يوجِّه لهذه الحركة، على أهميته، بما يتعلق ببنيتها التنظيمية أو الفكرية، أو تجربتها العسكرية وممارساتها العملية.

يتعلق الخطأ الأول بتجربة حركة المقاومة الفلسطينية بين عامي 1967 و1971؛ وهي التجربة التي أدَّت إلى صدام أيلول/ سبتمبر 1970م مع الجيش الأردني، وخروج المقاومة المسلحة من الأردن. قيل وكتب الكثير عن هذه التجربة، وتضمّن ذلك نظريات متنوعة عن المؤامرة التي تعرّضت لها الثورة في محاولة لتصفيتها، بمشاركة الرجعية العربية والصهيونية والإمبريالية. وثمّة من حاول إبداء قدرٍ من النقد الذاتي، فراجت مقولات عن تجاهل الحركة الوطنية الأردنية وإضعافها والحلول مكانها، على الرغم من أن الأحزاب المعروفة على الساحة الأردنية كلها، في ذلك الوقت، باستثناء حزب التحرير الإسلامي، قد شكّلت فصائل مسلحة (الناصريون والقوميون والبعثيون بجناحيهم، والشيوعيون، وحتى الإخوان المسلمون من خلال قواعد الشيوخ في "فتح").

وهناك من تحدث عن التأثير السلبي لتعدد فصائل المقاومة، ولجوء المقاومة إلى المدن، وعدم فهم تركيبة المجتمع الأردني، والممارسات الفردية الخاطئة، وضعف قدرة المقاومة على استيعاب الزخم الجماهيري وتنظيمه وتأطيره، وخطف الطائرات، والشعارات المتطرّفة التي غلبت على التنظيمات اليسارية (مثل شعار "كل السلطة للمقاومة"، ما جعلها نقيضًا وبديلًا للنظام الأردني)، وارتهان بعض الفصائل لأنظمة عربية، والعمل بموجب إملاءاتها على الساحة الأردنية.

ولكن ما سبق بمجمله لم يتطرّق إلى القصور الواضح في تحليل العلاقات العربية، والفهم الدقيق لموازين القوى التي كانت سائدة بين دولها، فمعلوم أن سياسة الأردن ارتبطت بشكل كامل منذ حرب حزيران/ يونيو 1967 بسياسة الرئيس جمال عبد الناصر؛ إذ لم يتخذ الأردن، خلال هذه الفترة، موقفًا واحدًا مغايرًا للسياسة المصرية، كما أن الشخصيات التي تسلّمت الحكم وتولّت تأليف الحكومات الأردنية، كانت محسوبة تاريخيًا على السياسة المصرية، فالسمة الدارجة لدى اختيار شخصية ما لتأليف الحكومة هي مدى قربها من المحور الذي يرغب الملك في التقرّب منه أو الانضمام إليه. وفي الوقت ذاته، حظيت المقاومة الفلسطينية بدعمٍ كبيرٍ من عبد الناصر، ما أسفر حينها عن تولي ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وإذا اضيف إلى ذلك وجود الجيش العراقي في الأردن، والدعم الذي قدّمه الجيش الأردني في إسناد الدوريات الفدائية العابرة للنهر، ومعركة الكرامة، والاشتباكات المتكرّرة بين الجيش الأردني والعدو الصهيوني، فإن الصورة ينبغي أن تكتمل على نحو مغاير تمامًا لما آلت إليه الحوادث.

ولافت أن المقاومة الفلسطينية تبنّت، في أدبيّاتها، مفاهيم حرب التحرير الشعبية، وتأثرت بالتجربتين، الفيتنامية والصينية، واللتين طبّقتا مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة ضدّ الاحتلال الياباني في الصين، والفرنسي في فيتنام، ودعت إلى حشد القوى كافة، على ما بينها من تناقضات، في مواجهة العدو الرئيس. لذا، السؤال الذي يصبح ملحّا، وبعيدًا عن مدى مسؤولية النظام الأردني أيضًا، هو لماذا لم تنجح، بل لم تحاول، المقاومة أن تؤسّس لجبهة وطنية متحدة تجمع بينها وبين النظام الأردني، حتى تتم إزالة آثار العدوان على الأقل؟ وهو ما كانت تفرضه موازين القوى والتحليل السياسي الدقيق لأطراف الصراع ومفاهيم الحرب الشعبية.

برنامج النقاط العشر في 1974 كان الخطأ الإستراتيجي الثاني؛ إذ كان بداية المسار الفلسطيني المعلن نحو التسوية السياسية. فصول الرواية بدأت عندما خيّر الرئيس أنور السادات القيادة الفلسطينية، بعد حرب أكتوبر 1973، بين أن تُدعى إلى مؤتمر جنيف للسلام وتشارك في مسار التسوية، والتي، على حدّ زعمه، ستؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أن يُدعى الأردن، وكأن خيار الانسحاب الإسرائيلي قد أصبح واقعًا، وأن المشكلة تكمن في من سيتسلّم الأرض الفلسطينية المحتلة، الأردن أم منظمة التحرير.

في هذه المرحلة رُوّج لإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وإن كانت قد وُصفت بالمقاتلة، وقيل إنها ستقوم على أي أرض تتحرّر من الاحتلال، ووُصف البرنامج بأنه مرحلي، ما يعني أنه خطوة على الطريق. عمليًا، كان برنامج النقاط العشر بمنزلة تذكرة عبور إلى مسار التسوية، ومن يومها تغيّر الهدف الإستراتيجي للثورة الفلسطينية من تحرير فلسطين كلها وإقامة الدولة الديمقراطية فيها إلى المطالبة بسلطة وطنية على جزءٍ منها. تغيّرت الإستراتيجية، وتغيّر المسار، واختلف الهدف.

بعد الخروج من الأردن، خاضت الثورة الفلسطينية في لبنان أكبر معاركها، أكان ذلك ضدّ العدو الصهيوني، أم دفاعًا عن الثورة وبقائها ووجودها. تأثّر الوجود الفلسطيني المسلّح بالسعي نحو الحصول على مقعد في قطار التسوية. وبدلًا من أن يكون لبنان قاعدة ارتكاز حقيقية، تحوّل إلى ورقة ينبغي التمسّك بها من أجل إظهار نقاط قوة منظمة التحرير، وحمل الأطراف الأخرى على الاعتراف بها لاعبًا في المنطقة، وطرفًا في عملية السلام المرتقبة.

قاد ذلك إلى شبكة من التحالفات المتغيّرة، وإلى الدخول في دوّامة الحرب الباردة بين المعسكرين، الأميركي والسوفياتي، ما كاد أن يوصل إلى التورّط في تقسيم لبنان، وارتكاب سياساتٍ خاطئة، مثل عزل حزب الكتائب اللبناني، القرار الذي كرّس الحزب قائدًا للمعسكر المسيحي في لبنان، وإلى تغليب التحالف مع قوى على حساب قوى أخرى، والتدخّل في نزاعاتها على مناطق نفوذها. انعكس ذلك على علاقة الثورة بالجماهير اللبنانية، والجنوبية منها خصوصا، كما انعكس على مجمل إستراتيجية الوجود الفلسطيني المسلّح وطبيعته، وأماكن انتشاره، ومهماته، وهو ما شكّل الخطأ الإستراتيجي الثالث، بتحويل لبنان من قاعدة ارتكاز ثورية إلى ورقة مساومة إقليمية تتنازعها جهات مختلفة، حاولت القيادة الفلسطينية أن تمسك بها، لعلّها تستخدمها في تقوية موقفها التفاوضي، وجعلها أكثر قبولًا، لكن ذلك زجّ بها في نزاعات متعددة.

لم يكن طريق السلام المزعوم مفروشًا بالورود، ولم تحظَ منظمة التحرير الفلسطينية بالترحيب، عندما أبدت رغبتها في الانضمام إليه، بل واجهت مقاومة ضارية، تمثّلت بمحاولات ضربها وتصفيتها تارة، وبمحاولة انتزاع تنازلاتٍ إضافيةٍ منها تارة أخرى، بحجة تأهيلها للاعتراف بها ممثّلا للفلسطينيين في عملية التسوية. وهكذا، ومنذ عام 1974 وحتى اتفاق أوسلو، كانت سياسة العصا والجزرة هي السائدة.

--




- انشر الخبر -